أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة
صنعاء
من الإشكاليات الواقعية التي يتكرر وقوعها
الخلافات التي تحدث نتيجة امتناع المستأجر
للارض الزراعية عن دفع الغلة المستحقة إضافة إلى أن هناك جدل واسع في الوسط الفقهي
والقانوني بشأن التكييف القانوني لامتناع المستأجر عن دفع الغلة للمؤجر أو المالك،
ومن الأحكام التي تناولت هذه المسألة الدقيقة الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية
بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة
بتاريخ 11/9/2011م في الطعن الجزائي رقم (42767) لسنة 1432ه وتتلخص وقائع القضية
التي تناولها هذا الحكم أن المالك للارض ً قام بمطالبة المستأجر لأرضه (الشريك) ما
يخصه من غلات فامتنع المستأجر الشريك عن دفع الغلات فقام مالك الأرض بتقديم شكوى
إلى النيابة العامة بأن المستأجر للأرض شريكه في غلاتها قد ارتكب جريمة خيانة
الأمانة بأن أضاف ما يخص المالك من الغلات إلى ملكه اي المستاجر وبذلك فقد تحققت
كافة أركان جريمة خيانة الأمانة ؛ وبعد التحقيق قامت النيابة بإحالة المتهم إلى المحكمة التي قامت بتعديل القيد
والوصف للتهمة من واقعة خيانة أمانة إلى واقعة مطل غني بعد أن استمعت إلى شهادات
الشهود، وبعد انتهاء إجراءات المحاكمة قضت
المحكمة (برفض دفع المتهم وإدانته بواقعة مطل غني وإلزامه بدفع غرامة ثلاثين ألف
ريال إلى الخزينة العامة وإلزامه بدفع مبلغ مائة وعشرين ألف ريال التي حرر بها سنداً للمدعي وإلزامه بتسليم غلة المواضع التي احتوتها ورقة
الاجارة المؤرخة شعبان 1418ه من تاريخ أخر تسليم ورفع يده عما تحكيه تلك الإجارة
وإلزام المدان بدفع خمسين ألف ريال مخاسير القضية) وقد جاء في أسباب الحكم
الابتدائي (وبما أن الوقائع المدرجة أنفاً تؤكد تمرد المتهم عن تسليم غلة المواضع
التي احتوتها الإجارة وكلما احتواه السندان المدرجان أنفاً فأنه لا سبيل لقبول الدفع ببطلان قرار الاتهام لأن
امتناع الأجير عن تسليم الغلول أو التفريط يخول للمؤجر فسخ عقد الإيجار ورفع يد
الأجير) فلم يقبل المتهم بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه إلا أن محكمة الاستئناف
قضت برفض استئنافه وتأييد الحكم الابتدائي بكامل فقراته، وقد جاء في أسباب الحكم
الاستئنافي (وحيث أن المستأنف لم يقدم جديدا امام محكمة الاستئناف فكل ماقدمه قد سبق لمحكمة اول درجة تحقيقه وبحثه
ومناقشته وسببت منطوق حكمها بما فيه
الكفاية مما يستوجب تأييد حكمها) فلم يقبل
المتهم بالحكم الاستئنافي حيث قام بالطعن فيه بالنقض أمام المحكمة العليا التي
رفضت طعنه وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد جاء في أسباب حكم المحكمة العليا (أما ما
أثاره الطاعن من أسباب فهو مجرد مجادلة في حقيقة الواقعة المنسوبة للطاعن التي
اقتنعت بثبوتها محكمة الموضوع بعد مناقشتها للأدلة التي عولت عليها في الإثبات
وجعلتها أساساً لحكمها ومستنداً لقضائها، وهاتان المسألتان من ضمن المسائل
الموضوعية التي تختص بنظرها والفصل فيها محكمة الموضوع فلا تمتد إليها رقابة المحكمة
العليا وفقاً للقانون طالما أن لها أصلها الثابت في الأوراق مما يتعين معه القضاء
بإطراح أسباب الطعن لعدم جديتها وجدواها وعدم اتفاقها مع أسباب الطعن بالنقض
المحددة في المادة (435) إجراءات) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين
في الأوجه الآتية:
الوجه الأول:
تكييف جريمة عدم تسليم الغلة على أساس جريمة خيانة الأمانة:
من خلال مطالعة
الحكم محل تعليقنا نجد أن النيابة العامة قدمت الأجير للأرض للمحاكمة على أساس أن
امتناعه عن تسليم الغلة جريمة خيانة أمانة فقامت المحكمة الابتدائية بتعديل قيد
ووصف الواقعة من خيانة أمانة إلى جريمة مطل غني، وهذا الأمر يقتضي الإشارة بإيجاز
بالغ إلى ملابسات هذا الموضوع عن طريق عرض النص القانوني لجريمة خيانة الأمانة ؛
حيث نصت المادة (318) عقوبات على أن (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من
ضم إلى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سلم إليه بأي وجه) وقد قامت محكمة أول
درجة بتعديل القيد والتهمة المنسوبة للممتنع عن دفع الغلة من جريمة خيانة الأمانة
إلى جريمة مطل غني على أساس أن النص القانوني السابق بشأن جريمة خيانة الأمانة قد
أشترط أن يكون المجني عليه قد سلم ماله الذي وقع عليه فعل خيانة الأمانة إلى
الجاني، في حين أن المجني عليه في واقعة الامتناع عن دفع الغلة لم يقم بتسليم
الغلة إلى الجاني وبذلك فقد تخلف شرط تسليم المال من المجني عليه إلى الجاني ؛
فقيام جريمة خيانة الأمانة يقتضي التسليم للمال بأي عقد من عقود الأمانة وهذا ما
لم يقع في واقعة الامتناع عن دفع الغلة، وعلى خلاف ما ذهب إليه قضاء محكمة أول
درجة في هذه المسألة يذهب اتجاه واسع من الفقه القانوني إلى أن جريمة خيانة
الأمانة تنطبق على امتناع الأجير عن تسليم الغلة لأن الغلة هي نماء المال المسلم
أصلاً من المالك للأجير، فالأجير مؤتمن على أصل المال والغلات المتولدة منه.
الوجه الثاني:
التكييف القانوني لجريمة الامتناع عن تسليم الغلة على أساس جريمة مطل الغني:
بينت المادة (316)
عقوبات جريمة وعقوبة مطل الغني حيث نصت على أن ( يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة
أو بالغرامة كل من اقترض مالاً لأجل ولم يقم بسداده عند المطالبة بعد انقضاء الأجل
مع قدرته على السداد) ومع أن هذا النص من ظاهره ومن خلفيته الشرعية متعلق بالقرض
الذي يدفعه المقرض (الدائن) إلى المقترض (المدين) إلا أن محكمة أول درجة قد عدّلت
قيد ووصف الواقعة من خيانة أمانة أي مطل غني على أساس أن الأجير عندما قام بتحرير سند للمالك بجزء من الغلة تحولت العلاقة
بشان هذا الموضوع الى دائن ومدين اي مقرض ومقترض.
الوجه الثالث:
الوضعية القانونية للأجير والغلة:
حسبما ورد في
وقائع الحكم محل تعليقنا فأن العلاقة القائمة بين المالك والأجير ينظمها عقد
مزارعة؛ وهذا العقد هو السائد في اليمن بين الملاك والمزارعين بنسبة 97% وهذا العقد يعني أن المالك يؤجر أرضه إلى
المستأجر ويسمى الشريك الذي يقوم بزراعة الأرض ويتقاسم مع المالك الغلة بنسب
متفاوتة بحسب الأعراف السائدة في اليمن فبعضها يكون نصيب المزارع ربع المحصول أو الغلة
وبعضها النصف وهكذا؛وقد بينت المادة (766؛)
ماهية عقد المزارعة حيث نصت على انه ؛(اذا اجر
رب الارض أرضاً معلومة لشخص أخر
يزرعها حرثاً وبذراً و تنقية فيما تصلح له
بجزء معلوم مما تنتجه الأرض كأن العقد ملزماً للمتعاقدين بشروطه المتفق عليها حال
العقد وللمالك رفع يد الأجير بعد حصاد الزرع القائم إذا خالف العرف أو أهمل أو فرط
أو أخل بما شرط عليه أو عجز وللأجير مقابل ما غرمه في إقامة الأرض (العناء) ما
يقدره عدلان إذا كان الزرع مما لا يقطع العناء عرفاً ولكل من المتعاقدين طلب إنهاء
المزارعة بعد حصاد الزرع القائم مع مراعاة التنبيه على الطرف الآخر قبل ذلك بوقت
كاف وفي البقول ونحوها مما يستغل أكثر من مرة يعمل بالعرف).
ومن خلال استعراض
النص القانوني السابق نجد ان الأجرة
المستحقة للمالك بموجب عقد المزارعة المذكور في النص السابق هي الجزء المتفق عليه
من غلة الأرض المؤجرة، وأن هذه الغلة نتاج الأرض المؤجرة للأجير أو المزارع وأن
هذه الغلة تابعة ومتعلقة ومتصلة بالعين، فأن أثمرت العين استحق المالك حصته من
غلتها وأن لم تثمر فلا يستحق شيئاً، وفي هذه المسألة يختلف عقد المزارعة أو إيجار
الأراضي الزراعية عن إيجار الأماكن كالعرصات والمنازل وغيرها، ولذلك فنحن نذهب إلى
تكييف الامتناع عن دفع الغلة على انه من
قبيل أفعال خيانة الأمانة؛ والله اعلم.
إرسال تعليق
فضلاً وليس أمراً
اترك تعليقاً هنا