الوقف يثبت بالشهرة إذا غاب الدليل

الوقف يثبت بالشهرة إذا غاب الدليل

أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

فطرة التدين والكرم سمة لازمت اليمنيين منذ فجر التاريخ ؛ والشاهد على ذلك الأوقاف الكثيرة والوفيرة حيث كان اسلافنا يوقفون  كرائم أموالهم قربة لله تعالى، وظلت تلك الاموال  صدقة جارية لا تنقطع يعود نفعها للامة باسرها ويصل اجرها بإذن اللهإلى ارواح الواقفين الذين ماتوا منذ قرون طويلة وما ماتت أوقافهم ومكارمهم: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم : ومات قوم وهم في الناس أحياء، وللأسف أنه في العصر الحاضر  الذي قل فيه التدين وصار شكلياً يحاول بعض المعاصرين طمس معالم الأوقاف وادلته وقطع تلك الصدقات الجارية، وحفظاً للأوقاف وحتى تظل حاضرة وشاهدة وقربةً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وحتى لا تضيع الأوقاف بضياع وثائقها وأدلة ثبوتها فقد قرر فقهاؤنا العظام قاعدة (الوقف يثبت بالشهرة) إلا أن هذه القاعدة الأصلية يرد عليها استثناء قرره ايضا الفقهاء وهو حضور الدليل المقابل الذي يدل على ان الارض  ليست من

الوقف أي أن هذه القاعدة يتم تطبيقها في كل الأحوال والظروف ماعدا حالة ظهور دليل قطعي بأن الأرض ملك خالص او ليست من الوقف .ومن خلال تجربتنا وخبرتنا نجد أن هذه القاعدة غير مستقرة في أذهان الكثيرين من حيث فهمها وتطبيقها ولذلك تحدث نزاعات كثيرة كان بالإمكان تجنبها لو كانت هذه القاعدة مفهومة من حيث ماهيتها وتطبيقاتها، وشاهدنا على هذا القول كثرة القضايا ذات الصلة بهذه القاعدة، حيث تناولتها أحكام عدة صدرت عن المحكمة العليا منها الحكم محل تعليقنا. وهو الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 9/1/2011م في الطعن الشخصي رقم (40281) لسنة 1432ه وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن رجلاً صالحاً أوقف موضعاً من ماله للمسجد ذكره في وقفيته المحررة بتاريخ 28/12/1357ه (1954م) وذكر الواقف في الوقفية اسم المسجد الموقوف عليه وذكر فيها اسم الأرض الموقوفة وبمرور الوقت ضاعت بعض معالم تلك الأرض  وحدودها نتيجة عدم زراعتها، وبعد حين عادت الحياة إلى تلك  الأرض وما جاورها  فازدهرت تجارة الأراضي في تلك المنطقة وارتفع ثمنها فقام أحد الأشخاص المجاورين للأرض الموقوفة بالحفر والبناء في الارض المجاورة  للأرض الموقوفة؛فقام مكتب الأوقاف في المديرية برفع دعوى أمام المحكمة المختصة مدعياً أن الأرض التي يحفر فيها المدعى عليه تابعة لأرض الوقف بموجب الوقفية المشار إليها، فرد المدعى عليه بأن الأرض التي يحفر فيها هي ملك خاص به صار ت له إرثاً من بعد والده وأن الأرض ملك خاص لاسلافه المعاصرين للواقف وأن الأرض التي أوقفها الواقف لا تمتد إلى أرضه، وقدم المدعى عليه اتفاقية فيما بين والده والقاضي في المدينة التي تقع بها الأرض تم بموجبها تحديد حدود الارض الموقوفةوكذا  أرضه المجاورة لارض الوقف حيث اعتمدت تلك الاتفاقيةمخابرة اي مراسلة سابقة فيما بين  والده وناظر الوقف تضمنت بيان الحدود الفاصلة فيما بين ارض  الوقف وارضه . وبالإضافة الى ذلك فقد حلف المدعى عليه اليمين الحاسمة على ان الأرض التي يعمل بها ليست داخلة ضمن الأرض الموقوفة على ذلك المسجد، وقد خلصت المحكمة الابتدائية إلى الحكم (بعدم قبول دعوى مكتب الأوقاف واعتماد الاتفاقية المؤرخة 2/1/1991م باعتماد المخابرة المؤرخة 3/11/1991م بما لا يتعارض مع أحكام قانون الوقف النافذ) وقد ورد في أسباب الحكم الابتدائي (ثم أن المدعى عليه مضى باليمين الحاسمة على ذلك وأنه لا يعرف للوقف غير ذلك وحيث لا توجد مسودة فليس أمامنا إلا ما أقر به المدعى عليه للوقف) فلم يقبل مكتب الأوقاف بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه إلا أن محكمة الإستئناف رفضت عريضة الإستئناف وأقرت الحكم الابتدائي، وقد ورد في أسباب الحكم الاستئنافي (كما أن المتفق عليه شرعاً وقانوناً أن الوقف يكفي لإثباته الشهرة إذا غاب الدليل) فلم يقبل مكتب الأوقاف بالحكم الاستئنافي حيث بادر إلى الطعن بالنقض إلا أن المحكمة العليا رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد في أسباب حكم المحكمة العليا (وتجد الدائرة بعد الاطلاع على الأوراق مشتملات الملف أن ما ينعي به الطاعن على الحكم الاستئنافي هو تجاهله وثيقة الوقف المحررة بتاريخ 28/12/1357ه الموافق 1954م واعتماده للاتفاقية التي استدل بها المطع

 

التي أقطتع بموجبها الجزء الأكبر من أرض الوقف، وحيث أن الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد جاء موافقاً من حيث النتيجة للشرع والقانون لما علل به واستند إليه لقضائه بتأييد الحكم الابتدائي حيث لا توجد وقفية ولا مسودة كما أن المتفق عليه شرعاً وقانوناً أن الوقف يكفي لإثباته بالشهرة إذا غاب الدليل مما يستوجب رفض الطعن واقرار الحكم المطعون فيه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

الوجه الأول: إثبات الوقف بصفة عامة:

إثبات الوقف هو (إقامة الحجة أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة والقانون على أن المال وقف (جامع البيان 11/10) ويتم إثبات الوقف  بالشهادة والإقرار والكتابة والقرائن والشهرة أو الاستفاضة؛ اي ان الوقف يثبت بطرق الاثبات المعروفة مثله ذلك مثل غيره ؛ الا ان هناك نوع من الخصوصية لاثبات الوقف بمسودات الوقف وسجلاته فاذا كان الوقف مدونا في سجل الأوقافيخالفه واختلف ذلك مع ما في المسودة الحاصلة بخطوط أمناء معتبرين وظهر ما يخالفها فالعبرة بالمسودة، وإذا ظهرت أوراق قديمة تدل على الوقف في أملاك قد تناقلت بظاهر الملك فمثل هذا موكول إلى نظر القاضي المعتبر، وهو يختلف باختلاف الخطوط والجهات والأحوال، فخطوط الأئمة الرشدين والحكام المعتبرين المعروفة راجحة بخلاف خطوط من لا يعرف حاله من حيث الورع والتحري وبالنظر إلى الجهات اوالبلدات كأن يكون أهلها ممن لا يتورع عن الاغتصاب وفي أيديهم الحلال والحرام غصباً ومعاملة فهذا وجه مرجح للعمل بالخط بخلاف ما إذا كانت الجهة أو البلدة نافذة فيها أحكام الشريعة في هذا الوقت أو سابقه فأن هذا مما يقوى الثبوت ويرجحه على البصائر، وبالنظر إلى الأحوال بأن لا يكون قد جرى في  هذه الأموال أحكام الحكام المعتبرين وأهل التحري وتقرير من هي تحت يده فهذا مما يقوى الثبوت وعدم العمل بالخط فيجوز الحكم أنها ليست وقف  ولو كانت وقفاً فربما قد نقض الوقف بحكم ونحو ذلك كالبيع لإصلاح المسجد فينظر القاضي في

المقويات والمضعفات وما تقوى عنده عمل به (الوقف في الفقه الإسلامي، صحيفة الثورة 20/9/2019) إضافة إلى ذلك فقد ورد في المادة (328) مرافعات على مسودات أراضي الأوقاف تعد سندات تنفيذية يتم تنفيذها بقوة السلطة العامة حيث نصت تلك المادة على أن (تعد السندات التنفيذية فيما يأتي -6- مسودات أراضي وعقارات الأوقاف القديمة والتي هي بخط كاتب مشهور).فيحب تنفيذ ماورد فيها كما لو انها حكم بات اونهائي.

ومن خلال ما تقدم يظهر لنا أن الوقف يتفق مع غيره من الاموال  من حيث  اثباته بطرق الإثبات المعتبرة شرعاً، إلا أن الوقف قد انفرد بوسيلة إثبات إضافية تكفل حفظ أموال الوقف من الضياع وهي وسيلة الشهرة، وسوف نشير إليها في الوجه الثاني.

الوجه الثاني: إثبات الوقف بالشهرة:

سبق القول أن الشهرة أو الاستفاضة وسيلة إثبات إضافية انفرد بها إثبات الوقف عن غيره لأهمية الوقف، والشهرة والاستفاضة هي: درجة بين التواتر والاحاد تعني الإشتهار والذيوع الذي يتحدث به الناس ويفيض وينتشر بينهم  (المصباح المنير ص251) وقد أجمع العلماء على صحة الشهادة بالشهرة في النسب والولادة، أما الوقف فجمهور الفقهاء يذهبون  الىأن الوقف يثبت بالشهرة وهو قول غالبية الزيدية والحنفية والمشهور عند المالكية والقول الصحيح عند الشافعية والحنابلة :( شرح الازهار ج2 ص 294و حاشية ابن عابدين ج  3ص192 وحاشية الدسوقي ج 2 ص172ا؛) وحجة الجمهور فيما ذهبوا إليه: بأن الوقف تطول مدته حيث أنه يظل إلى أن يرث إليه الإرث ومن عليها فيتعذر إثباته بوسائل الإثبات المعروفة لطول مدته  وقصر حياة الناس وأوراق الكتابة فجاز إثباته بالشهرة أو بالاستفاضة ؛ فقد قال الإمام مالك: ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا بالسماع أي الشهرة (البناية شرح الهداية 8/155) كما أن الشهرة من أظهر البيانات بل ربما تكون أقوى من شهادة الشاهدين، وقول الجمهور هو القول الذي نميل الى اختباره ؛في حين يذهب بعض الفقهاءالى ان الوقف لايثبت بالشهرة وحجتهم في ذلك  أن الشهادة هي وسيلة الإثبات الأصلية فهي  ممكنة في إثبات الوقف من غير حاجة إلى إثباته بالاستفاضة مثل سائر العقود والتصرفات، ويشترط للشهادة بالشهرة لإثبات الوقف على قول الجمهور سماع الشاهد للمشهود به أي على الوقف عن عدد كثير يحصل به العلم وقال بعضهم يكفي أن يسمع من أثنين عدلين ويطمئن قلبه إلى صدقهما ؛والصحيح القول الأول، (فيثبت الوقف بالشهرة المستفيضة والذيوع في المحلة اوالبلدة ولا يكتفي القاضي بشهادة شاهدين على الشهرة حتى يبعث من يثق به إلى المحلة  فإذا كان أهلها كلهم أو أغلبهم مجمعين عليها عمل بها، وقد صرح  قانون الوقف النافذ بان الوقف يثبت بالشهرة حيث نصت المادة (87) على أن (يثبت الوقف بالشهرة المستفيضة والذيوع في المحلة ولا يكتفي الحاكم  بشهادة شاهدين على الشهرة حتى يبعث من يثق به إلى المحلة فإذا كان أهلها كلهم أو أغلبهم مجمعين  عليها عمل بها).   

الوجه الثالث: الدليل المقابل

 المعطل لإثبات الوقف بالشهرة:

أحكاألألألأ

سبق القول بأن الشهرة أو الاستفاضة وسيلة إثبات إضافية بالنسبة للوقف يتم استعمالها عندما لا يتوفر للوقف دليل على ثبوته، وذكرنا فيما سبق أيضا أن قاعدة (إثبات الوقف بالشهرة) قاعدة أصيلة ولكن يرد عليها استثناء وهو غياب الدليل المناهض لها، والدليل المناهض للشهرة هو دليل الملكية الخاصة فإذا ظهر الدليل الصحيح على أن الأرض محل النزاع  ملكية خاصة فلا مجال للإثبات بالشهرة، لأن الإثبات بالشهرة لا يكون إلا عند غياب الدليل، وعند تطبيق هذا المفهوم على الحكم محل تعليقنا نجد أنه لم يقم بتطبيق قاعدة (إثبات الوقف بالشهرة) لأنه كانت هناك (مخابرة) أي  رسالة تحكي أن الأرض التي يقوم الشخص المحكوم له بالبناء فيه ليست من الوقف كما أن هناك اتفاقية تالية لتلك الرسالة تفيد العمل بموجب تلك المخابرة ؛فهذه أدلة ظاهرة لا ينبغي أن يتم إثبات خلافها عن طريق وسيلة الشهرة؛ والله اعلم.

أحكاألألألأ