الاختصاص المكاني ليس من النظام العام
الاختصاص المكاني
ليس من النظام العام
أ.د. عبد المؤمن
شجاع الدين
الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
الاختصاص المكاني للمحاكم ليس من النظام العام كان في الماضي حقيقة مسلم بها لكن الامر في الوقت الحاضر صار محلا للجدل بشأن نطاق التنظيم القضائي لاجهزة السلطة القضائية وتحديد نطاق اختصاص المحاكم في ضوء المعايير التي يتم على اساسها تحديد نطاق الاختصاص الجغرافي لكل محكمة, وما اذا كان التوزيع الجغرافي والمكاني للمحاكم متعلق بولاية القضاة في المحاكم بمعنى انه: هل يجوز للقاضي ان يحكم في قضية تدخل ضمن اختصاص محكمة غير تلك المحكمة التي تعيينه بها ؟ وفي هذه الحالة هل تكون للقاضي ولاية ؟ وهل الاختصاص المكاني للمحاكم متعلق بولاية القضاة في المحاكم .؟ بمعنى انه يجوز للقاضي ان يحكم في قضية تدخل ضمن اختصاص محكمة غير تلك التي يعمل بها, كما ان هذا الموضوع يثير اشكالية اخرى وهي حدود حرية المتقاضين في اختيار المحكمة التي يرفعون دعاويهم امامها وحدود حق الدولة في تنظيم القضاء وتوزيع المحاكم بحسب المعايير المعتمدة؛ وبغرض الاشارة بايجاز الى هذه المسائل نجد انه من المناسب التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 22/1/2011م في الطعن الشخصي رقم (40760) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم في ان ورثة ادعوا على خالهم لهم مطالبين له بنصيب امهم من تركة والدها حيث قدم المدعون دعواهم على خالهم في المحكمة التي يقع محل اقامته وعمله في نطاقها المكاني في حين ان اموال التركة المدعى بها تقع ضمن نطاق اختصاص محكمة اخرى, فسارت المحكمة التي تم رفع الدعوى امامها في نظر الدعوى حتى خلصت تلك المحكمة الى الحكم بانه (وحيث ان المدعين لم يقدموا أي دليل من ادلة الاثبات وحيث ان عب الاثبات يقع على المدعي ولذلك فان المحكمة تحكم برفض الدعوى والزام المدعين بتسليم نفقات المحاكمة) فلم يقبل المدعون بالحكم الابتدائي فقاموا بالطعن فيه امام محكمة الاستئناف ؛ وذكروا في استئنافهم ان المحكمة التي اصدرت الحكم غير مختصة مكانيا ؛الا ان محكمة الاستئناف رفضت الطعوقضت بتأييد الحكم الابتدائي, وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (ومن حيث الموضوع فليس في مناعي المستأنفين ما من شأنه التأثير في الحكم المطعون فيه فنعي المستأنفين من حيث الاختصاص المكاني يسقط بالدخول في موضوع الخصومة فلا يحق لهم بعد ذلك التمسك بالاختصاص المكاني, فالاختصاص المكاني ليس من النظام العام ويلزم ابداؤه قبل الدخول في الموضوع؛) فلم يقنع المستأنفون بالحكم الاستئنافي حيث قاموا بالطعن بالنقض في ذلك الحكم امام المحكمة العليا ولكنها رفضت الطعن واقرت الحكم الاستئنافي, وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (ومن مجمل الاسباب يتضح عدم حجتها حيث جاء الحكم الاستئنافي المطعون فيه موافقا من حيث النتيجة للشرع والقانون لما علل به واستند عليه في قضائه بتأييد الحكم الابتدائي بعد ان تبين للشعبة انه ليس في مناعي الطاعنين ما من شأنه التأثير في الحكم الابتدائي فالنعي بعدم الاختصاص المكاني ليس من الدفوع المتعلقة بالنظام العام ويلزم ابداؤه قبل الدخول في الموضوع اما بعده فيسقط الدفع بعدم الاختصاص المكاني) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الأوجه الاتية :
الوجه الاول :
مفهوم الاختصاص المكاني للمحاكم ومعايير تحديده :
الاختصاص المكاني للمحاكم هو توزيع الدعاوى توزيعا
جغرافيا أي تحديد نطاق الدائرة الجغرافية لكل محكمة حيث تختص المحكمة بنظر القضايا
التي تخص هذه المنطقة الجغرافية اذا كان موطن المدعى عليه او محل اقامته المؤقتة
يقع فيها او يقع فيها العقار محل النزاع, فمناط الاختصاص المكاني هو موطن المدعى
عليه حسبما ورد في المواد من (93الى 101) مرافعات؛ وترد بعض الاستثناءات على موطن
المدعى عليه مثل دعاوي النفقات والدعاوي الادارية والدعاوي التجارية وجرائم
الصحافة والنشر والجرائم التي تختص بها المحاكم المتخصصة الاخرى .
وهناك معايير يتم اعتمادها عند توزيع المحاكم على
المناطق الجغرافية في الدول المختلفة, ويمكن تلخيص هذه المعايير على النحو الاتي :
1- عدد السكان : حيث
يتم توزيع المحاكم وعدد القضاة على اساس
عدد السكان, والمعيار الدولي في هذا الشأن
هو قاض عامل واحد لكل من 6000 الى 9000 من
السكان, وهذا المعيار مختل في اليمن اختلالا كبيرا, فعند المقارنة بين عدد القضاة
العاملين في المحاكم فعلا نجد ان هناك قاض واحد لما يزيد على مائة الف من السكان
وفي مصر قاض واحد لكل ثلاثين الف من السكان وكثيرا من الدول العربية قاضي واحد لكل
اثنى عشر الف من السكان .
2- مساحة المكان
والمنطقة الجغرافية وطبيعتها الجغرافية: حيث ينبغي عند تحديد نطاق الاختصاص
المكاني للمحاكم ينبغي مراعاة هذا المعيار
حتى يتمكن المتقاضون من الوصول الى المحاكم بيسر وسهولة لمباشرة حقهم الدستوري
والقانوني في التقاضي, ولا يكفي هذا بل
ينبغي مراعاة الطبيعة الجغرافية والتضاريس للمناطق المختلفة ؛ فهناك مناطق طبيعتها
الجغرافية صعبة وان كانت متقاربة مكانيا مثل حجة وريمة لان الانتقال من مكان الى
مكان مجاور له صعب للغاية ؛ وهذه المناطق هي المناطق الجبلية
مثل المناطق الغربية الجبلية من اليمن ولذلك نجد عدد المحاكم في حجة كبير .
3- كثرة الدعاوي
والقضايا : وهذا من ضمن المعايير التي يتم اعتمادها في تحديد النطاق المكاني
للمحاكم, فهناك مناطق معينة تكثر فيها القضايا لأسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية
وامنية, فمثلا جنوب ايطاليا رغم قلة السكان هناك الا ان عدد المحاكم اكثر من
المحاكم في شمال ايطاليا المتطور , بل ان هناك محاكم داخل امانة العاصمة مساحتها
اقل وقضاياها اكثر .
4- وجود مرافق ومراكز
الدولة المعاونة للقضاء : فهذا معيار من المعايير المعتمدة في تحديد النطاق
المكاني للمحاكم ؛ فلا يمكن ان يتم تحديد مقر المحكمة في منطقة ما الا اذا كانت
هناك مراكز ومرافق لاجهزة الدولة المتصلة بالقضاء (النيابة – الشرطة – مركز
المديرية اوالسلطةالمحلية) .
5-
التقسيم الاداري للدولة : وهو من اهم المعايير في
توزيع المحاكم على الوحدات او المديريات في الدولة حيث يكون لكل وحدة ادارية
محكمة, فمثلا امانة العاصمة ينبغي ان يكون فيها محاكم بحسب عدد المديريات, الا ان
الامكانيات البشرية والمالية تحول دون تحقيق هذا الطموح .
الوجه الثاني :
موقف القانون اليمني من الاختصاص المكاني :
المراد بذلك هل الاختصاص المكاني في القانون
اليمني من النظام العام ام لا؟ ذكرنا في الوجه الاول ان قانون المرافعات اليمني قد
نظم وحدد اختصاص المحاكم المكاني في اكثر من تسع مواد وهذا دليل على اهتمام
القانون بالاختصاص المكاني, الا ان قانون المرافعات ذاته قرر في المادة (181) ان
الدفع بعدم الاختصاص المكاني يسقط اذا لم يتم ابداؤه قبل الدخول في موضوع النزاع,
وهذا يعني ان الاختصاص المكاني ليس من النظام العام فلو كان من النظام العام لجاز
ابداؤه في اية مرحلة من مراحل التقاضي ولجاز للمحكمة ذاتها ان تتعرض له من تلقاء
ذاتها حتى ولو لم يطلب ذلك الخصوم, الا ان هناك اتجاه في الدول الاخرى لجعل
الاختصاص المكاني من النظام العام لان الاختصاص المكاني يعتمد على معايير
تنظيمية دقيقة تضعها السلطة القضائية
لتنظيم اعمال القضاء ولذلك فان خرق المعايير السابق ذكرها في الوجه الاول يعد
اخلالا بهذا التنظيم القضائي الذي ينبغي على الافراد احترامه ؛ علاوة على العلاقة
الوثيقة فيما بين الاختصاص المكاني وولاية القاضي على النحو السابق بيانه في مقدمة
هذا التعليق.
الوجه الثالث :
الاعتبارات التي تقوم عليها فكرة ان الاختصاص المكاني ليس من النظام العام:
هناك اعتبارات عدة في هذا الشأن من اهمها الاتي :
1- الاختصاص المكاني
يختلف عن الاختصاص النوعي, ففي الاختصاص المكاني يستوي ان يذهب المتقاضي الى هذه
المحكمة او تلك طالما والقاضي مختص ومتخصص نوعيا, فلن يكون هناك اي تأثير على العدالة ولن يتغير وجه الحكم في هذه
الحالة .
2- قيام المتقاضي برفع
الدعوى امام محكمة غير مختصة مكانيا دليل على قبوله بالتقاضي امامها ولو لم تكن
مختصة مكانيا وسكوت المدعى عليه وعدم دفعه في بدايةالخصومة بعدم اختصاص المحكمة
مكانيا دليل ايضا على قبوله بنظر هذه المحكمة للقضية, ولذلك ينبغي احترام ارادة
المتقاضين طالما ان ذلك لا ينطوي على اخلال بالعدالة والتخصص .
3-
احترام مبدأ عدم الهدر الاجرائي فعلى المتقاضي ان
يدفع بعدم الاختصاص قبل الخوض في موضوع القضية اما بعد ذلك فانه نوع من العبث
والهدر للإجراءات التي سبق للمحكمة ان باشرتها؛ والله اعلم.
أضف تعليق