بسم
الله الرحمن الرحيم
قضاء
القاضي بعلمه الشخصي
بقلم د. هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن
hanisibu@hotmail.com
تقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين. وبعد:
هذا بحث شرعي مفصل ومبسط نقدمه لطلبة العلم وللمشتغلين بالقضاء الشرعي وأيضاً للدارسين للفقه المقارن. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم.
ولمحاولة فهم هذه القضية (قضاء القاضي بعلمه الشخصي) نسوقها في الصورة التالية:
إذا توافرت لدى القاضي معلومات شخصية في الدعوى، كان قد شهد وقوع حادثة من الحوادث ثم رفعت إليه للنظر فيها، فهل يجوز له الحكم اعتماداً على هذه المعلومات التي حصل عليها خارج الجلسة وفي غير نطاق المرافعات والمناقشات التي جرت فيها؟
في هذا الصدد توجد بوجه عام مدرستان في الفقه الإسلامي: الأولى تنادي بعدم جواز أن يحكم القاضي بعلمه أصلاً سواء في حقوق الله أو حقوق العباد. والثانية ترى جواز ذلك وفي داخل المدرسة الثانية يوجد ثلاث اتجاهات: الأول: يذهب إلى جواز قضاء القاضي بعلمه في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً للعبد أو حقاً مشتركاً بينهما، علم ذلك في زمان ولايته أو قبله في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره. الثاني: فيرى أن القاضي لا يقضي بعلمه في الحدود التي هي حق خالص لله ويقضي بعلمه فيما عداها سواء على هذا زمن الولاية أو قبلها في مصرها أو في غير مصرها. أما الاتجاه الثالث: فيقصر حكم القاضي على ما علمه في زمان الولاية في مصرها.
المدرسة
الأولى: عدم جواز أن يحكم القاضي بعلمه
الشخصي
يرى
أنصار هذه المدرسة أنه ليس للقاضي أن يحكم بعلمه في أي حق من
الحقوق، تستوي في ذلك حقوق الله وحقوق الآدميين. وإلى هذا ذهب مالك وأحمد في المشهور عنه
والشافعي في أحد قوليه. قال في تبصرة الحكام: "فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم بعلمه في ذلك. وقال عبد المالك: يحكم وعليه قضاة المدينة، ولا أعلم أن مالكاً قال غيره. وبه قال مطرف وسحنون وأصبغ، والأول هو المشهور" يقصد ابن فرحون الأشهر هو قول مالك وابن القسم القائل بألا يحكم القاضي بعلمه. لذلك قال تعليقاً على رأي عبد الملك وسحنون: "قال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن في مسائله: قول ابن القاسم أصح لفساد الزمان، ولو أدرك عبد الملك وسحنون زماننا لرجعا عما قالاه، لو أخذ بقولهم لذهبت أموال الناس وحكم عليهم بما لم يقروا به"
جاء في المعيار المعرب " وسئل أبو بكر بن مغيث عن قول مالك: لا يقضي القاضي بعلمه. فأجاب: إنما رأى ذلك مالك لأنه لا يجوز إنفاذ حكم إلا بعد الإعذار، والقاضي إذا قضى بعلمه لا يجوز له أن يقول إنني علمت هذا الحق قبله فأعذرت إليه في نفسي فلم يأت فيه بمدفع فيكون ذلك خلافاً لنص الكتاب قال الله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فهذا وجه من الإعذار"
وفي المذهب الحنبلي: قال الخرقي: (ولا يحكم الحاكم بعلمه) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها. وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي"
ودليلهم في ذلك:
(أ) قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
وجه الدلالة: لقد أمر الله سبحانه وتعالى بجلدهم إذا لم يأتوا ببينة، وإن علم القاضي صدقهم.
(ب) وما أخرجه مسلم عن ابن عباس في قصة الملاعنة:
قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا »
وجه الدلالة: ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم وقوع الزنا من هذه المرأة ولم يرجمها لعدم البينة على زناها، فدل هذا على عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي.
(ج) وحديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا »
وجه الدلالة: في هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم إنه إنما يبني حكمه على ما سمعه من حجج الخصمين لا على مجرد علمه الشخصي.
(د) حديث الأشعث بن قيس الكندي:
"َانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى شَىْءٍ ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ "
وجه الدلالة في هذا الحديث أنه قد أفاد أن الإثبات لا يكون إلا بالشاهدين أو اليمين، ودل هذا على أن علم القاضي لا يجوز القضاء به لأنه ليس واحداً منهما (الشهادة أو اليمين).
(هـ) حديث عيسى بن مريم عليه السلام:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ لاَ وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِى »
وجه الدلالة: ففي هذا الحديث لم يعمل عيسى عليه السلام بعلمه الشخصي وقبل يمين السارق مع أنه كاذب يقيناً. فلو كان القضاء بالعلم الشخصي مشروعاً لأقام عليه حد السرقة.
(و) قصة أبي جهم بن حذافة:
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلاَجَّهُ رَجُلٌ فِى صَدَقَتِهِ فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوُا النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَرَضُوا. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى خَاطِبٌ الْعَشِيَّةَ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ». فَقَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّ هَؤُلاَءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِى يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَرَضِيتُمْ ». قَالُوا لاَ. فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ فَكَفُّوا ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ فَقَالَ « أَرَضِيتُمْ ». فَقَالُوا نَعَمْ. قَالَ « إِنِّى خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ». قَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَرَضِيتُمْ ». قَالُوا نَعَمْ."
وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه مع أنه عرضه عليهم أول الأمر، فلو كان القضاء بمجرد العلم جائزاً لما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم إنكارهم ولحكم عليهم بمقتضى علمه الشخصي.
(ز) وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه:
عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ وَجَدْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَمْ أَحُدَّهُ أَنَا وَلَمْ أَدْعُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِى غَيْرِى"
وجه الدلالة: أن هذا نص صريح في أن أبا بكر لا يرى جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي.
(ح) "عَنْ عِكْرِمَةَ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً قَتَلَ أَوْ سَرَقَ أَوْ زَنَى. قَالَ : أَرَى شَهَادَتَكَ شَهَادَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ : أَصَبْتَ"
وجه الدلالة أن هذا نص صريح عن عمر أنه لا يجوز له أن يقضي بعلمه الشخصي.
يقول ابن القيم في التعليق على الخبرين السابقين: "وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وحكمه. فإن التهمة مؤثرة في باب الشهادات والأقضية، وطلاق المريض وغير ذلك/ فلا تقبل شهادة السيد لعبده، ولا العبد لسيده، ولا شهادة الوالد لوده، وبالعكس، ولا شهادة العدو على عدوه. ولا يقبل حكم الحاكم لنفسه. ولا ينفذ حكمه على عدوه. ولا يصح إقرار المريض مرض الموت لوارثه ولا الأجنبي، عند مالك إذا قامت شواهد التهمة. ولا تمنع المرأة الميراث بطلاقه لها لأجل التهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنها أرضعتها ـ إلى أضعاف ذلك مما يرد ولا يقبل للتهمة"
(ط) وأخيراً يستند أنصار هذه المدرسة إلى القول أن قضاء القاضي بعلمه يكون كما في الدعوى بدون بينة ولا يمين. فوجب ألا يصح لأن الشرع الحكيم قد الحكم بأحدهما، ولأن تجويز قضاء القاضي بعلمه الشخصي يفضي إلى الحكم بما اشتهي، ويحيله إلى علمه! فهذا وإن كان لا يصدر إلا عمن ضعف إيمانه، ولم يراقب الله فيما يقوم به، إلا أن التفرقة بين من يتصور صدور ذلك منه، ومن لا يتصور؛ أمر يتعذر لأن العلم بخفايا النفوس خاص بالله وحده، فوجب القضاء بعدم اعتبار العلم الشخصي للقاضي سداً للذريعة.
المدرسة
الثانية: يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه
هذه
المدرسة تضم ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: يذهب إلى جواز قضاء القاضي
بعلمه في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً لله أو حقاً خالصاً للعباد أو حقاً
مشتركاً بينهما، علم ذلك زمان ولايته أو قبله في مصره الذي يقضي فيه أو في
غيره.والاتجاه الثاني: يرى أن القاضي لا يقضي بعلمه في الحدود التي هي حق خالص لله ويقضي بعلمه فيما عداها سواء علم هذا زمان الولاية أو قبلها في مصرها أو غيرها.
الاتجاه الثالث: يقضي القاضي بعلمه الشخصي على ما علمه في زمان الولاية في مصرها وذلك فيما عدا الحقوق الخالصة لله تعالى فهذه لا يجوز له أن يقضي فيها بعلمه.
نشرع
الآن في تفصيل هذه الاتجاهات على النحو التالي:
الاتجاه
الأول:
(
(جواز
قضاء القاضي بعلمه في سائر الحقوق)يذهب إلى جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً لله تعالى كالحدود أو حقاً خالصاً للعبد كالأموال أو حقاً مشتركاً كالقصاص وحد القذف، علم بذلك في زمان ولايته أو قبله، في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره، وهذا هو اتجاه الشافعي في المشهور عنه، وبعض المالكية، وأحمد في رواية عنه، وأهل الظاهر والشيعة الإمامية في الصحيح من مذهبهم.
وفي فقه الإمامية؛ قال الحلي: "الإمام عليه السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس"
أما إذا كان الحق خالصاً لله تعالى كالحدود فإن هناك روايتين لغير الإمام من القضاة كما قال في شرائع الإسلام: "وفي حقوق الله سبحانه، على قولين أصحهما القضاء. ويجوز له أن يحكم في ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد الحكم"
قال ابن قدامة في تعليقه على مسألة الخرقي (لا يحكم الحاكم بعلمه) أن هناك رواية أخرى عن أحمد أي يجوز للحاكم أن يقضي بعلمه: "وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي ثور"
يقول ابن حزم: "وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء والقصاص والأموال والفروج والحدود وسواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته وأقوى ما حكم بعلمه لأنه يقين الحق ثم بالإقرار ثم بالبينة"
أدلة القائلين بهذا الرأي:
(1) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)
وجه الدلالة في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين عامة بالقوامة وبالقسط ، والحاكم من جملتهم، وليس من القسط أن يعلم الحاكم أن أحد الخصمين مظلوم والآخر ظالم ويترك كلاً منهم على حاله. فمن واجب الإنسان أن يقيم العدل حسب مقدرته، وليس من العدل في شئ أن يعلم القاضي بحق على شخص لله تعالى أو لإنسان ثم لا يستوفي منه هذا الحق.
يقول صاحب المحلى: " وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره، وأن يكون الفاسق يعلن الكفر بحضرة الحاكم والإقرار بالظلم والطلاق ثم يكون الحاكم يقره مع المرأة ويحكم لها بالزوجية والميراث فيظلم أهل الميراث حقهم"
(2) كما احتجوا بـ

وجه الدلالة من هاتين الآيتين أنهما أو جبتا على من علم أن شخصاً ارتكب الأسباب الموجبة للزنا والسرقة أن يقيم الحد عليه إذا كان ممن يملك إقامتها، والقاضي بحكم مركزه له ولاية إقامة الحدود فكان مأموراً بذلك، وإذا كان له أن يقضي بعلمه في الحدود كما يفهم من هاتين الآيتين، فله أن يقضي بعلمه في الحقوق الخالصة للعباد أو المشتركة كالأموال والقصاص.
(3) يستندون إلى حديث أبي سعيد الخدري:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ »
وجه الدلالة من هذا الحديث أن فيه أمراً لك مسلم بتغيير كل منكر يقدر على تغييره، والقاضي يدخل في عموم هذا الحديث دخولاً أولياً، ومن المنكر الذي لا أشد منه أن يترك من رآه يرتكب ما حرم الله بحجة أنه لم تقم عليه عنده بينة، مع أنه قادر على تغيير ذلك، فعدم تجويز القضاء بالعلم إهدار لهذا الحديث الشريف.
قال ابن حزم: "والحاكم إن لم يغير ما رأى من المنكر حتى تأتي البينة على ذلك فقد عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم"
فصح أن فرضا عليه أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطي كل ذي حق حقه وإلا فهو ظالم
(4) ما أخرجه الحاكم من حديث عطاء بن السائب عن ابن أبي يحيى بن الأرج عن أبي هريرة قال: "جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فقال للآخر: احلف، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو عندك، ادفع إليه حقه، ثم قال شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك"
وجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي وهو اليمين، فالأولى جواز القضاء بالعلم بعد وقوعه.
(5) "عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ الْحَضْرَمِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِى عَلَى أَرْضٍ لِى كَانَتْ لأَبِى. فَقَالَ الْكِنْدِىُّ هِىَ أَرْضِى فِى يَدِى أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْحَضْرَمِىِّ « أَلَكَ بَيِّنَةٌ ». قَالَ لاَ. قَالَ « فَلَكَ يَمِينُهُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِى عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَىْءٍ. فَقَالَ « لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ » فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَدْبَرَ « أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ "
وجه الدلالة من هذا الحديث أن لفظ بينة شامل لكل ما يبين الحق ويظهره وعلم القاضي يحقق هذا الغرض فكان داخلاً في مسمى البينة المنصوص عليها في هذا الحديث.
(6) حديث سعد بن الأطول: عَنْ أَبِى نَضْرَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ الأَطْوَلِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِيَالاً فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا عَلَى عِيَالِهِ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَدَّيْتُ عَنْهُ إِلاَّ دِينَارَيْنِ ادَّعَتْهُمَا امْرأَةٌ وَلَيْسَ لَهَا بَيِّنَةٌ. قَالَ « فَأَعْطِهَا فَإِنَّهَُا مُحِقَّة"ٌ وجه الدلالة أن هذا الحديث يدل على جواز اعتماد القاضي في الحكم على مجرد علمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم لها بالدينارين، ولم يطلب منها بينة على ذلك، بل جعل مستنده في الحكم: علمه بصدقها.
(7) قصة هند بنت عتبة زوجها:
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، وَلَيْسَ يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى ، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ « خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ "
وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لها أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها ويكفي ولدها، وقد اعتمد في حكمه على علمه بصحة ما ادعته، ولذا لم يسألها البينة على دعواها، ولم يحضر الزوج ويسأله عن الدعوى، وهذا ظاهر الدلالة على جواز قضاء القاضي بعلمه.
(8) حديث خزيمة بن ثابت:
"عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِىٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ فَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَشْىَ وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِىُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الأَعْرَابِىَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلاَ يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَهُ فَنَادَى الأَعْرَابِىُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ وَإِلاَّ بِعْتُهُ. فَقَامَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الأَعْرَابِىِّ فَقَالَ « أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ». فَقَالَ الأَعْرَابِىُّ لاَ وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « بَلَى قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ». فَطَفِقَ الأَعْرَابِىُّ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا. فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ. فَأَقْبَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ « بِمَ تَشْهَدُ ». فَقَالَ بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ"
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بعلمه، وإذا كان الحكم بالعلم للنفس جائزاً فإنه يجوز للغير من باب أولى لأن ذلك أبعد عن التهمة.
(9) ويستند أنصار هذا الاتجاه إلى القول بأن القاضي يحكم بالشاهدين وهذا حكم بغلبة الظن، وإذا جاز له الحكم بغلبة الظن فحكمه بما تحققه وقطع به أولى، وذلك لأن العلم أقوى دلالة من الظن المستفاد من شهادة الشهود أو الإقرار. كذلك فإن القاضي يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم، وعلى هذا يجوز له الحكم بعلمه في ثبوت الحق وعلمه، فالتزكية حاصلة لحاكم بتوليته الحكم، فلا وجه للتهمة وسوء الظن به، ولذا انعقد الإجماع على جواز حكمه بعلمه في تعديل الشهود وتجريحهم فكذا هذا، إذ لا وجه للتفرقة، وقبول حكمه بمقتضى علمه في البعض، ورده في البعض الآخر من غير دليل يدل ذلك على تحكم ظاهر.
الاتجاه
الثاني:
(
(يجوز
أن يحكم القاضي بعلمه في حقوق العباد الخالصة أو المشتركة
بين حقوق الله وحقوق العباد):يرى أنصار هذا الرأي أنه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الآدميين الخالصة وفيما هو مشترك بين الله وبين العبد، سواء علم هذا زمان ولايته أو قبلها في البلد الذي ولي قضاءها أو في غيرها. أما إذا كان حقاً خالصاً لله تعالى كحد الزنا والشرب والسرقة وقطع الطريق فلا يجوز أن يقضي فيه بعلمه الشخصي. ويمثل هذا الاتجاه أبو يوسف ومحمد في رواية عنه وبعض الشافعية والشيعة الزيدية. قال الشوكاني عن رأي الشيعة الزيدية: لهم روايتان يقضي بعلمه والثانية لا يقضي بعلمه كما ذكر الشوكاني"قد حكى في البحر عن الإمام يحيى وأحد قولي المؤيد بالله"
يقول السرخسي: " وإذا رأى القاضي وهو في مجلس القضاء أو غيره رجلا يزني أو يسرق أو يشرب الخمر ثم رفع إليه فله أن يقيم عليه الحد في القياس لأنه تيقن باكتسابه السبب الموجب للحد عليه والعلم الذي استفاده بمعاينة السبب فوق العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود، لأن ذلك محتمل الصدق والكذب. وفي الاستحسان لا يقيم عليه الحد"
أدلة القائلين بهذا الرأي:
(1) ما أخرجه أبو حنيفة في مسنده: من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فهذا الحديث تلقته الأمة بالقبول وأجمع على العمل به فقهاء الأمصار، وعلم القاضي لا يورث الاطمئنان عند الكافة خصوصاً فيما يعلق بحق الله الذي تطالب به الكافة ويورث شبهة عند الناس، ومن أجل ذلك لا يقضي بعلمه الشخصي.
(2) ما أخرجه مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الملاعنة: قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا »
وجه الدلالة من هذا الحديث أنه أفاد منع القاضي من القضاء بعلمه في الزنا، وعدوا هذا الحكم إلى سائر الحدود التي هي حق خالص لله بجامع أن كلا فيه حق لله تعالى، وحقوق الله مبنية على المساهمة، ولأن الحدود حقوق خالصة لله تعالى والقاضي خصم فيها إذ ليس من يطالب بها فتلحقه التهمة إذا استوفاها بعلمه الشخصي بخلاف حقوق الآدميين، فإن صاحب الحق يطالب بها، ومن ثم فالتهمة منتفية عن القاضي إذا حكم فيها بعلمه.
(3) وما أخرجه البيهقي: عن أبي بكر : "لَوْ وَجَدْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَمْ أَحُدَّهُ أَنَا وَلَمْ أَدْعُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِى غَيْرِى"
فمفهوم كلام أبي بكر أنه لا يقضي بعلمه في الحدود خاصة لأن قوله على حد يفهم منه أنه لو رآه على غير حد لحكم عليه بمقتضى علمه الشخصي.
(4) يحتج أصحاب هذا الاتجاه بأن الحدود حق خالص لله يستوفيها القاضي على سبيل النيابة: "ولأن الحدود التي هي من خالص حق الله تعالى يستوفيها الإمام على سبيل النيابة من غير أن يكون هناك خصم يطالب به من العباد فلو اكتفى بعلم نفسه في الإقامة ربما يتهمه بعض الناس بالجور والإقامة بغير حق وهو مأمور بأن يصون نفسه عن ذلك وهذا بخلاف القصاص وحد القذف وغير ذلك من حقوق الناس لأن هناك خصم يطالب به من العباد وبوجوده تنتفي التهمة عن القاضي فكان مصدقا فيما زعم أنه رأى ذلك"
وقد احتجوا على جواز الحكم في حقوق الآدميين بالعلم الشخصي للقاضي بذات الأدلة التي احتج بها من رأى الجواز المطلق في الحدود وغيرها.
فضلاً وليس أمراً
اترك تعليقاً هنا