معلومة قانونية وثقافية, قانون , رد ,دعوى , دفع, استشكال, اتفاق, عقد شراكة في محل تجاري, عقد تأسيس شركة تجارية, عق تشغيل حارس في عمارة, دعوى قسمة التركة, الوصية والوقف, الهبة, فسخ عقد الزواج, دعوى إلغاء القرار الاداري.
إعلان علوي
آخر الاخبار
الرئيسية/دراسات قانونية/ قضاء القاضي بعلمه الشخصي بقلم د. هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن hanisibu@hotmail.com
قضاء القاضي بعلمه الشخصي بقلم د. هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن hanisibu@hotmail.com
بقلم
د. هاني السباعيمدير مركز المقريزي
للدراسات التاريخية بلندن hanisibu@hotmail.com
تقدمة:
الحمد
لله والصلاة والسلامعلى رسولنا الأعظم
محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين. وبعد: هذا
بحث شرعيمفصل ومبسط نقدمه
لطلبة العلم وللمشتغلين بالقضاء الشرعي وأيضاً للدارسين للفقهالمقارن. نسأل الله سبحانه
وتعالى أن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم. ولمحاولةفهم هذه القضية (قضاء القاضي
بعلمه الشخصي) نسوقها في الصورة التالية: إذاتوافرت لدى القاضي معلومات شخصية
في الدعوى، كان قد شهد وقوع حادثة من الحوادث ثمرفعت إليه للنظر
فيها، فهل يجوز له الحكم اعتماداً على هذه المعلومات التي حصلعليها خارج الجلسة وفي غير نطاق
المرافعات والمناقشات التي جرت فيها؟ في
هذاالصدد توجد بوجه عام
مدرستان في الفقه الإسلامي: الأولى تنادي بعدم جواز أن يحكمالقاضي بعلمه أصلاً سواء في حقوق
الله أو حقوق العباد. والثانية ترى جواز ذلك وفيداخل المدرسة الثانية
يوجد ثلاث اتجاهات: الأول: يذهب إلى جواز قضاء القاضي بعلمهفي سائر الحقوق سواء ما كان منها
حقاً خالصاً للعبد أو حقاً مشتركاً بينهما، علمذلك في زمان ولايته
أو قبله في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره. الثاني: فيرى أنالقاضي لا يقضي بعلمه في الحدود
التي هي حق خالص لله ويقضي بعلمه فيما عداها سواءعلى هذا زمن الولاية
أو قبلها في مصرها أو في غير مصرها. أما الاتجاه الثالث: فيقصرحكم القاضي على ما علمه في زمان
الولاية في مصرها.
المدرسة
الأولى: عدم جوازأن يحكم القاضي بعلمه
الشخصي
يرى
أنصار هذه المدرسة أنه ليس للقاضي أن يحكمبعلمه في أي حق من
الحقوق، تستوي في ذلك حقوق الله وحقوق الآدميين. وإلى هذا ذهبمالك وأحمد في المشهور عنه
والشافعي في أحد قوليه. قال
في تبصرة الحكام: "فقالمالك وابن القاسم: لا
يحكم بعلمه في ذلك. وقال عبد المالك: يحكم وعليه قضاةالمدينة، ولا أعلم أن
مالكاً قال غيره. وبه قال مطرف وسحنون وأصبغ، والأول هوالمشهور" يقصد
ابن فرحون الأشهر هو قول مالك وابن القسم القائل بألا يحكم القاضيبعلمه. لذلك قال تعليقاً على رأي
عبد الملك وسحنون: "قال الشيخ أبو بكر بن عبدالرحمن في مسائله:
قول ابن القاسم أصح لفساد الزمان، ولو أدرك عبد الملك وسحنونزماننا لرجعا عما قالاه، لو أخذ
بقولهم لذهبت أموال الناس وحكم عليهم بما لم يقروابه" جاء
في المعيار المعرب " وسئل أبو بكر بن مغيث عن قول مالك: لا يقضي القاضيبعلمه. فأجاب: إنما رأى ذلك مالك
لأنه لا يجوز إنفاذ حكم إلا بعد الإعذار، والقاضيإذا قضى بعلمه لا
يجوز له أن يقول إنني علمت هذا الحق قبله فأعذرت إليه في نفسي فلميأت فيه بمدفع فيكون ذلك خلافاً
لنص الكتاب قال الله تعالى: (وإما تخافن من قومخيانة فانبذ إليهم
على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فهذا وجه من الإعذار"
وفيالمذهب الحنبلي: قال الخرقي:
(ولا يحكم الحاكم بعلمه) ظاهر المذهب أن الحاكم لايحكم بعلمه في حد ولا
غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها. وهذا قول شريحوالشعبي ومالك وإسحاق
وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي"
ودليلهمفي ذلك:
(أ)
قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاتَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
وجهالدلالة: لقد أمر الله سبحانه
وتعالى بجلدهم إذا لم يأتوا ببينة، وإن علم القاضيصدقهم.
(ب)
وما أخرجه مسلم عن ابن عباس في قصة الملاعنة: قَالَ
النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-
« لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍلَرَجَمْتُهَا » وجه
الدلالة: ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علموقوع الزنا من هذه
المرأة ولم يرجمها لعدم البينة على زناها، فدل هذا على عدم جوازقضاء القاضي بعلمه الشخصي.
(ج)
وحديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّرَسُولَ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ،وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ
بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُبِحَقِّ أَخِيهِ
شَيْئًا بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَالنَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا » وجه
الدلالة: في هذا الحديث بين النبي صلى اللهعليه وسلم إنه إنما
يبني حكمه على ما سمعه من حجج الخصمين لا على مجرد علمهالشخصي.
(د)
حديث الأشعث بن قيس الكندي:
"َانَ
بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍخُصُومَةٌ فِى شَىْءٍ
، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلمـ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ
يَمِينُهُ " وجه
الدلالة في هذا الحديث أنه قد أفادأن الإثبات لا يكون
إلا بالشاهدين أو اليمين، ودل هذا على أن علم القاضي لا يجوزالقضاء به لأنه ليس واحداً منهما
(الشهادة أو اليمين).
(هـ)
حديث عيسى بن مريمعليه السلام: عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليهوسلم- « رَأَى عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَلَهُ أَسَرَقْتَ
قَالَ لاَ وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. قَالَ عِيسَىعَلَيْهِ السَّلاَمُ آمَنْتُ
بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِى » وجه
الدلالة: ففيهذا الحديث لم يعمل
عيسى عليه السلام بعلمه الشخصي وقبل يمين السارق مع أنه كاذبيقيناً. فلو كان القضاء بالعلم
الشخصي مشروعاً لأقام عليه حد السرقة.
(و)
قصةأبي جهم بن حذافة: عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى اللهعليه وسلم- بَعَثَ
أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلاَجَّهُ رَجُلٌ فِىصَدَقَتِهِ فَضَرَبَهُ أَبُو
جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوُا النَّبِىَّ -صلى الله عليهوسلم- فَقَالُوا
الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليهوسلم- « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ».
فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا
». فَلَمْ
يَرْضَوْا فَقَالَ « لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ». فَرَضُوا. فَقَالَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-
« إِنِّى خَاطِبٌ الْعَشِيَّةَ عَلَى النَّاسِوَمُخْبِرُهُمْ
بِرِضَاكُمْ ». فَقَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلىالله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّ
هَؤُلاَءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِى يُرِيدُونَالْقَوَدَ فَعَرَضْتُ
عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَرَضِيتُمْ ». قَالُوالاَ. فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ
بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليهوسلم- أَنْ يَكُفُّوا
عَنْهُمْ فَكَفُّوا ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ فَقَالَ
« أَرَضِيتُمْ
». فَقَالُوا نَعَمْ. قَالَ « إِنِّى خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِوَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ».
قَالُوا نَعَمْ. فَخَطَبَ النَّبِىُّ -صلى الله عليهوسلم- فَقَالَ «
أَرَضِيتُمْ ». قَالُوا نَعَمْ." وجه
الدلالة من هذا الحديث أنالنبي صلى الله عليه
وسلم لم يحكم بعلمه مع أنه عرضه عليهم أول الأمر، فلو كانالقضاء بمجرد العلم جائزاً لما
اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم إنكارهم ولحكم عليهمبمقتضى علمه الشخصي.
(ز)
وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه: عَنِ
ابْنِ أَبِىذِئْبٍ عَنِ
الزُّهْرِىِّ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِىَ اللَّهُعَنْهُ : لَوْ وَجَدْتُ رَجُلاً
عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَمْ أَحُدَّهُأَنَا وَلَمْ أَدْعُ
لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِى غَيْرِى"
وجه
الدلالة: أن هذا نص صريح في أن أبا بكر لا
يرى جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي.
(ح)
"عَنْعِكْرِمَةَ : أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ :
أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً قَتَلَ أَوْ سَرَقَأَوْ زَنَى. قَالَ :
أَرَى شَهَادَتَكَ شَهَادَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ
: أَصَبْتَ" وجه
الدلالة أن هذا نص صريح عن عمر أنه لا يجوز له أن يقضيبعلمه الشخصي. يقول
ابن القيم في التعليق على الخبرين السابقين: "وهذا من كمالفقه الصحابة رضي الله عنهم،
فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وحكمه. فإنالتهمة مؤثرة في باب
الشهادات والأقضية، وطلاق المريض وغير ذلك/ فلا تقبل شهادةالسيد لعبده، ولا العبد لسيده،
ولا شهادة الوالد لوده، وبالعكس، ولا شهادة العدوعلى عدوه. ولا يقبل
حكم الحاكم لنفسه. ولا ينفذ حكمه على عدوه. ولا يصح إقرارالمريض مرض الموت لوارثه ولا
الأجنبي، عند مالك إذا قامت شواهد التهمة. ولا تمنعالمرأة الميراث
بطلاقه لها لأجل التهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنهاأرضعتها ـ إلى أضعاف ذلك مما يرد
ولا يقبل للتهمة"
(ط)
وأخيراً يستند أنصار هذهالمدرسة إلى القول أن
قضاء القاضي بعلمه يكون كما في الدعوى بدون بينة ولا يمين. فوجب ألا يصح لأن الشرع الحكيم قد الحكم بأحدهما، ولأن
تجويز قضاء القاضي بعلمهالشخصي يفضي إلى
الحكم بما اشتهي، ويحيله إلى علمه! فهذا وإن كان لا يصدر إلا عمنضعف إيمانه، ولم يراقب الله فيما
يقوم به، إلا أن التفرقة بين من يتصور صدور ذلكمنه، ومن لا يتصور؛
أمر يتعذر لأن العلم بخفايا النفوس خاص بالله وحده، فوجب القضاءبعدم اعتبار العلم الشخصي للقاضي
سداً للذريعة.
المدرسة
الثانية: يجوزللقاضي أن يحكم بعلمه
هذه
المدرسة تضم ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: يذهبإلى جواز قضاء القاضي
بعلمه في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاً لله أوحقاً خالصاً للعباد أو حقاً
مشتركاً بينهما، علم ذلك زمان ولايته أو قبله في مصرهالذي يقضي فيه أو في
غيره. والاتجاه
الثاني: يرى أن القاضي لا يقضي بعلمه فيالحدود التي هي حق
خالص لله ويقضي بعلمه فيما عداها سواء علم هذا زمان الولاية أوقبلها في مصرها أو غيرها. الاتجاه
الثالث: يقضي القاضي بعلمه الشخصي على ما علمهفي زمان الولاية في
مصرها وذلك فيما عدا الحقوق الخالصة لله تعالى فهذه لا يجوز لهأن يقضي فيها بعلمه.
نشرع
الآن في تفصيل هذه الاتجاهات على النحوالتالي:
الاتجاه
الأول:
(
(جواز
قضاء القاضي بعلمه في سائر الحقوق) يذهبإلى جواز قضاء القاضي بعلمه
الشخصي في سائر الحقوق سواء ما كان منها حقاً خالصاًلله تعالى كالحدود أو
حقاً خالصاً للعبد كالأموال أو حقاً مشتركاً كالقصاص وحدالقذف، علم بذلك في
زمان ولايته أو قبله، في مصره الذي يقضي فيه أو في غيره، وهذاهو اتجاه الشافعي في المشهور
عنه، وبعض المالكية، وأحمد في رواية عنه، وأهل الظاهروالشيعة الإمامية في
الصحيح من مذهبهم. وفي
فقه الإمامية؛ قال الحلي: "الإمامعليه السلام يقضي
بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس"
أماإذا كان الحق خالصاً لله تعالى
كالحدود فإن هناك روايتين لغير الإمام من القضاة كماقال في شرائع
الإسلام: "وفي حقوق الله سبحانه، على قولين أصحهما القضاء. ويجوز لهأن يحكم في ذلك كله من غير حضور
شاهد يشهد الحكم" قال
ابن قدامة في تعليقه علىمسألة الخرقي (لا
يحكم الحاكم بعلمه) أن هناك رواية أخرى عن أحمد أي يجوز للحاكم أنيقضي بعلمه: "وعن أحمد
رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي ثور"
يقول
ابن حزم: "وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه
في الدماء والقصاص والأموال والفروج والحدود وسواءعلم ذلك قبل ولايته
أو بعد ولايته وأقوى ما حكم بعلمه لأنه يقين الحق ثم بالإقرارثم بالبينة" أدلة
القائلين بهذا الرأي:
(1) قوله
تعالى: (يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىأَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْفَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُواوَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَخَبِيراً) وجه
الدلالة في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين عامةبالقوامة وبالقسط ، والحاكم من
جملتهم، وليس من القسط أن يعلم الحاكم أن أحدالخصمين مظلوم والآخر
ظالم ويترك كلاً منهم على حاله. فمن واجب الإنسان أن يقيمالعدل حسب مقدرته، وليس من العدل
في شئ أن يعلم القاضي بحق على شخص لله تعالى أولإنسان ثم لا يستوفي
منه هذا الحق. يقول
صاحب المحلى: " وليس من القسط أن يتركالظالم على ظلمه لا
يغيره، وأن يكون الفاسق يعلن الكفر بحضرة الحاكم والإقراربالظلم والطلاق ثم يكون الحاكم
يقره مع المرأة ويحكم لها بالزوجية والميراث فيظلمأهل الميراث حقهم"
(2) كما
احتجوا بـالزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَجَلْدَةٍ)
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَاكَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وجه
الدلالة منهاتين الآيتين أنهما
أو جبتا على من علم أن شخصاً ارتكب الأسباب الموجبة للزناوالسرقة أن يقيم الحد عليه إذا
كان ممن يملك إقامتها، والقاضي بحكم مركزه له ولايةإقامة الحدود فكان
مأموراً بذلك، وإذا كان له أن يقضي بعلمه في الحدود كما يفهم منهاتين الآيتين، فله أن يقضي
بعلمه في الحقوق الخالصة للعباد أو المشتركة كالأموالوالقصاص.
(3) يستندون
إلى حديث أبي سعيد الخدري: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُبِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْفَبِقَلْبِهِ
وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ » وجه
الدلالة من هذا الحديث أن فيهأمراً لك مسلم بتغيير
كل منكر يقدر على تغييره، والقاضي يدخل في عموم هذا الحديثدخولاً أولياً، ومن المنكر الذي
لا أشد منه أن يترك من رآه يرتكب ما حرم الله بحجةأنه لم تقم عليه عنده
بينة، مع أنه قادر على تغيير ذلك، فعدم تجويز القضاء بالعلمإهدار لهذا الحديث الشريف. قال
ابن حزم: "والحاكم إن لم يغير ما رأى من المنكرحتى تأتي البينة على
ذلك فقد عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم"
فصح
أن فرضاعليه أن يغير كل منكر
علمه بيده وأن يعطي كل ذي حق حقه وإلا فهو ظالم
(4) ماأخرجه الحاكم من حديث عطاء بن
السائب عن ابن أبي يحيى بن الأرج عن أبي هريرة قال:
"جاء
رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي أقم البينة فلميقمها. فقال للآخر: احلف، فحلف
بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شئ، فقال رسولالله صلى الله عليه
وسلم بل هو عندك، ادفع إليه حقه، ثم قال شهادتك أن لا إله إلاالله كفارة يمينك" وجه
الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضىبعلمه بعد وقوع السبب
الشرعي وهو اليمين، فالأولى جواز القضاء بالعلم بعدوقوعه.
(5) "عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْحَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ
كِنْدَةَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-
فَقَالَ
الْحَضْرَمِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِى عَلَىأَرْضٍ لِى كَانَتْ لأَبِى.
فَقَالَ الْكِنْدِىُّ هِىَ أَرْضِى فِى يَدِىأَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ
فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليهوسلم-
لِلْحَضْرَمِىِّ « أَلَكَ بَيِّنَةٌ ». قَالَ لاَ. قَالَ « فَلَكَ يَمِينُهُ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ
يُبَالِى عَلَى مَاحَلَفَ عَلَيْهِ
وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَىْءٍ. فَقَالَ « لَيْسَ لَكَ مِنْهُإِلاَّ ذَلِكَ » فَانْطَلَقَ
لِيَحْلِفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليهوسلم- لَمَّا
أَدْبَرَ « أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًالَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ
عَنْهُ مُعْرِضٌ " وجه
الدلالة من هذا الحديث أنلفظ بينة شامل لكل ما
يبين الحق ويظهره وعلم القاضي يحقق هذا الغرض فكان داخلاً فيمسمى البينة المنصوص عليها في
هذا الحديث.
(6) حديث
سعد بن الأطول: عَنْ أَبِىنَضْرَةَ عَنْ سَعْدِ
بْنِ الأَطْوَلِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلاَثَمِائَةِدِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِيَالاً
فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا عَلَى عِيَالِهِ فَقَالَالنَّبِىُّ -صلى الله
عليه وسلم- « إنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِعَنْهُ ». فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَدَّيْتُ عَنْهُ إِلاَّدِينَارَيْنِ
ادَّعَتْهُمَا امْرأَةٌ وَلَيْسَ لَهَا بَيِّنَةٌ. قَالَ
« فَأَعْطِهَا
فَإِنَّهَُا مُحِقَّة"ٌ وجه الدلالة أن هذا الحديث يدل على جواز اعتمادالقاضي في الحكم على مجرد علمه،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم لهابالدينارين، ولم يطلب
منها بينة على ذلك، بل جعل مستنده في الحكم: علمهبصدقها.
(7) قصة
هند بنت عتبة زوجها: عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَعُتْبَةَ قَالَتْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ،وَلَيْسَ يُعْطِينِى
مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى ، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَلاَ يَعْلَمُ فَقَالَ « خُذِى مَا
يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ
" وجهالدلالة من هذا الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم حكم لها أن تأخذ من مال زوجهاما يكفيها ويكفي
ولدها، وقد اعتمد في حكمه على علمه بصحة ما ادعته، ولذا لم يسألهاالبينة على دعواها، ولم يحضر
الزوج ويسأله عن الدعوى، وهذا ظاهر الدلالة على جوازقضاء القاضي بعلمه.
(8) حديث
خزيمة بن ثابت:
"عَنِ
الزُّهْرِىِّ عَنْعُمَارَةَ بْنِ
خُزَيْمَةَ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِالنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-
أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَفَرَسًا مِنْ
أَعْرَابِىٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ فَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- الْمَشْىَ وَأَبْطَأَ
الأَعْرَابِىُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَالأَعْرَابِىَّ
فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلاَ يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَهُ فَنَادَى الأَعْرَابِىُّ
رَسُولَ اللَّهِ -صلىالله عليه وسلم-
فَقَالَ إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ وَإِلاَّبِعْتُهُ. فَقَامَ النَّبِىُّ
-صلى الله عليه وسلم- حِينَ سَمِعَ نِدَاءَالأَعْرَابِىِّ
فَقَالَ « أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ». فَقَالَالأَعْرَابِىُّ لاَ وَاللَّهِ
مَا بِعْتُكَهُ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليهوسلم- « بَلَى قَدِ
ابْتَعْتُهُ مِنْكَ ». فَطَفِقَ الأَعْرَابِىُّ يَقُولُ هَلُمَّشَهِيدًا. فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ
ثَابِتٍ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْبَايَعْتَهُ.
فَأَقْبَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ « بِمَ تَشْهَدُ ». فَقَالَ بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. فَجَعَلَ رَسُولُاللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ"
وجه
الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بعلمه، وإذا كان الحكم بالعلمللنفس جائزاً فإنه يجوز للغير من
باب أولى لأن ذلك أبعد عن التهمة.
(9) ويستندأنصار هذا الاتجاه إلى القول بأن
القاضي يحكم بالشاهدين وهذا حكم بغلبة الظن، وإذاجاز له الحكم بغلبة
الظن فحكمه بما تحققه وقطع به أولى، وذلك لأن العلم أقوى دلالةمن الظن المستفاد من شهادة
الشهود أو الإقرار. كذلك فإن القاضي يحكم بعلمه في تعديلالشهود وجرحهم، وعلى
هذا يجوز له الحكم بعلمه في ثبوت الحق وعلمه، فالتزكية حاصلةلحاكم بتوليته الحكم، فلا وجه
للتهمة وسوء الظن به، ولذا انعقد الإجماع على جوازحكمه بعلمه في تعديل
الشهود وتجريحهم فكذا هذا، إذ لا وجه للتفرقة، وقبول حكمهبمقتضى علمه في البعض، ورده في
البعض الآخر من غير دليل يدل ذلك على تحكمظاهر.
الاتجاه
الثاني:
(
(يجوز
أن يحكم القاضي بعلمه في حقوق العبادالخالصة أو المشتركة
بين حقوق الله وحقوق العباد):
يرى
أنصار هذا الرأي أنهيجوز للقاضي أن يحكم
بعلمه في حقوق الآدميين الخالصة وفيما هو مشترك بين الله وبينالعبد، سواء علم هذا زمان ولايته
أو قبلها في البلد الذي ولي قضاءها أو في غيرها.
أما
إذا كان حقاً خالصاً لله تعالى كحد الزنا والشرب والسرقة وقطع الطريق فلا يجوزأن يقضي فيه بعلمه الشخصي. ويمثل
هذا الاتجاه أبو يوسف ومحمد في رواية عنه وبعضالشافعية والشيعة
الزيدية. قال الشوكاني عن رأي الشيعة الزيدية: لهم روايتان يقضيبعلمه والثانية لا يقضي بعلمه
كما ذكر الشوكاني"قد حكى في البحر عن الإمام يحيىوأحد قولي المؤيد
بالله" يقول
السرخسي: " وإذا رأى القاضي وهو في مجلس القضاءأو غيره رجلا يزني أو
يسرق أو يشرب الخمر ثم رفع إليه فله أن يقيم عليه الحد فيالقياس لأنه تيقن باكتسابه السبب
الموجب للحد عليه والعلم الذي استفاده بمعاينةالسبب فوق العلم الذي
يحصل له بشهادة الشهود، لأن ذلك محتمل الصدق والكذب. وفيالاستحسان لا يقيم
عليه الحد" أدلة
القائلين بهذا الرأي:
(1) ما
أخرجه أبوحنيفة في مسنده: من
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فهذا الحديث تلقته الأمة بالقبول وأجمع على العمل به
فقهاء الأمصار، وعلم القاضي لايورث الاطمئنان عند
الكافة خصوصاً فيما يعلق بحق الله الذي تطالب به الكافة ويورثشبهة عند الناس، ومن أجل ذلك لا
يقضي بعلمه الشخصي.
(2) ما
أخرجه مسلم من أنالنبي صلى الله عليه
وسلم قال في قصة الملاعنة: قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليهوسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا
أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا
» وجهالدلالة من هذا الحديث أنه أفاد
منع القاضي من القضاء بعلمه في الزنا، وعدوا هذاالحكم إلى سائر
الحدود التي هي حق خالص لله بجامع أن كلا فيه حق لله تعالى، وحقوقالله مبنية على المساهمة، ولأن
الحدود حقوق خالصة لله تعالى والقاضي خصم فيها إذليس من يطالب بها
فتلحقه التهمة إذا استوفاها بعلمه الشخصي بخلاف حقوق الآدميين،فإن صاحب الحق يطالب بها، ومن ثم
فالتهمة منتفية عن القاضي إذا حكم فيها بعلمه.
(3) وما
أخرجه البيهقي: عن أبي بكر : "لَوْ وَجَدْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْحُدُودِ اللَّهِ لَمْ أَحُدَّهُ
أَنَا وَلَمْ أَدْعُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَمَعِى غَيْرِى" فمفهوم
كلام أبي بكر أنه لا يقضي بعلمه في الحدود خاصة لأن قولهعلى حد يفهم منه أنه
لو رآه على غير حد لحكم عليه بمقتضى علمه الشخصي.
(4) يحتجأصحاب هذا الاتجاه بأن الحدود حق
خالص لله يستوفيها القاضي على سبيل النيابة: "ولأنالحدود التي هي من
خالص حق الله تعالى يستوفيها الإمام على سبيل النيابة من غير أنيكون هناك خصم يطالب به من
العباد فلو اكتفى بعلم نفسه في الإقامة ربما يتهمه بعضالناس بالجور
والإقامة بغير حق وهو مأمور بأن يصون نفسه عن ذلك وهذا بخلاف القصاصوحد القذف وغير ذلك من حقوق
الناس لأن هناك خصم يطالب به من العباد وبوجوده تنتفيالتهمة عن القاضي
فكان مصدقا فيما زعم أنه رأى ذلك" وقد
احتجوا على جواز الحكمفي حقوق الآدميين
بالعلم الشخصي للقاضي بذات الأدلة التي احتج بها من رأى الجوازالمطلق في الحدود وغيرها.
الاتجاه الثالث:
(لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه في الحدود الخالصة
لله سواء قبلوبعد ولايته أو في زمن ولايته):
يرى أنصار هذا الرأي أنه لا يجوز للقاضي أنيحكم
بعلمه في الحدود الخالصة لله سواء علم ذلك قبل الولاية أو بعدها في محل ولايتهأو
في غيرها: " فأما حد القذف والقصاص وغير ذلك من حقوق الناس والرجوع فيه بعدالإقرار
باطل وللقاضي أن يلزمه ذلك بإقراره فكذلك له أن يلزمه بمعاينته سبب ذلك لأنمعاينته
السبب أقوى في إفادة العلم من إقرار المقربة وهذا إذا رأى ذلك في مصره الذيهو
قاض فيه بعد ما قلد القضاء. فأما إذا كان رأىذلك قبل
أن يتقلد القضاء ثم استقضيفليس له أن يقضي بعلمه في ذلك عند أبي حنيفة" وخالفه أبو يوسف ومحمد إذاقالا:"له
أن يقضي بعلمه في ذلك لأن علمه بمعاينة السبب لا يختلف بما بعد أن يستقضىوقبله
وهو أقوى من العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود فإن معاينة السبب تفيده علماليقين
وشهادة الشهود لا تفيده ذلك فإذا جاز له أن يقضي بشهادة الشهود عنده فلانيجوز
له أن يقضي بعلم نفسه أولى"
وعلى أية حال فالاتجاه الثالث هو اتجاه أبيحنيفة
مستنداً في ذلك إلى نفس الأدلة التي احتج بها الاتجاه الأول، ووجه التفرقةعنده
بين ما عليه بعد ولايته، وفي المصر الذي وكل إليه قضاءه، وبين ما علمه في غيرذلك
أن علمه الحادث له في زمن القضاء علم في وقت هو مكلف فيه بالقضاء، فأشبه البينةالقائمة
فيه. والعلم الحاصل في غير زمن القضاء حاصل في وقت هو غير فيه بالقضاء، فلميكن
في معنى البينة، فلم يجز القضاء به. الخلاصة: هاتان هما المدرستان اللتانتنازعتا
الحكم في مسألة مدى جواز أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي فيما يعرض عليه منقضايا،
ولكي تكتمل الصورة كلها بأبعادها ودقائقها ينبغي أن نعرض لما أجاب به أنصاركل
مدرسة على أدلة الطرف الآخر، وذلك على النحو التالي:
(ا) مناقشة أدلةالمدرسة
الأولى:
أجيب على ما استدل به أنصار المدرسة الأولى على
عدم جواز أنيقضي القاضي بعلمه الشخصي: الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (وَالَّذِينَيَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَفَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداًوَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ)
قال المخالف: لا دلالة في هذه الآية على عدمجواز
القضاء بالعلم الشخصي للقاضي، وذلك لأن الاقتصار على الشهود لا يستلزم عدمثبوت
الحد بغيرهم، فمن المسلم به أن المقذوف لو أقر بما نسب إليه لسقط الحد عنالقاذف،
وإن لم يأت بأربعة شهداء، مع أن ذلك لم يذكر في الآية الكريمة. الرد علىحديث
الملاعنة: وما أخرجه مسلم عن ابن عباس في قصة الملاعنة:
قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا
أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍلَرَجَمْتُهَا » قال المخالف: واضح من سياق الحديث أنه لا يدل على
عدم القضاءبالعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم
بزنا تلك المرأة. وإنما قامت لديهقرائن توحي بارتكابها لذلك، فترك رجمها راجع لعدم
قيام دليل قاطع على صدور الزنامنها. والأمور التي تدل على زناها مجرد قرائن وهي
غير صالحة لبناء الحكم عليها. ولوسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في شأن
الملاعنة فإنه لا يصلح للاحتجاج بهعلى منع القضاء بالعلم لأنه عليه السلام إنما لم
يقض بعلمه لكونه قد تم اللعانبينها وبين زوجها وهو وحده كاف لدرء الحد. قال الشوكاني: " وظاهره أنه صلى اللهعليه
وسلم قد علم وقوع الزنى منها ولم يحكم بعلمه. ومن ذلك قول أبي بكر وعبد الرحمنالمتقدمان،
ويمكن أن يجاب عن الحديث؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما لم يعملبعلمه
لكونه قد حصل التلاعن، وهو أحد الأسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجموالنزاع
إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه" قال ابنحزم: :
"وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت راجما أحدا بغير بينةلرجمتها
وهذا لا حجة لهم فيه لأن علم الحاكم أبين بينة وأعدلها" الرد على حديثأم سلمة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ « إِنَّكُمْتَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ
أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ،فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا
بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُلَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا » قال المخالف: هذا الحديث لاتقوم به
حجة لهم لأن التنصيص على السماع لا يغني كون غيره طريقاً للحكم، مع أنهيمكن
أن يقال إن الاحتجاج بهذا الحديث للذين يجيزون القضاء بالعلم أظهر فإن العلمأقوى
من السماع لأنه لا يمكن بطلان ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان مايعلم. الرد على الاستدلال بحديث (شاهداك أو يمينه): حديث الأشعث بن قيسالكندي:"َانَ
بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى شَىْءٍ ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَىرَسُولِ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ " قال المخالف: "وهذا قد خالفه المالكيون
المحتجون به، فجعلوا له الحكم باليمينمع الشاهد، واليمين مع نكول خصمه، وليس هذا
مذكورا في الخبر، وجعل له الحنفيونالحكم بالنكول وليس ذلك في الخبر، وأمروه بالحكم
بعلمه في الأموال التي فيها جاءهذا الخبر، فقد خالفوه جهارا وأقحموا فيه ما ليس
فيه"
ويضيف ابن حزم: " وأمانحن
فنقول أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينتك أو يمينه) ومنالبينة
التي لا بينة أبين منها صحة علم الحاكم بصحة حقه، فهو في جملة هذا الخبر" الرد على احتجاجهم بحديث عيسى بن مريم عليه
السلام: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَقَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَعَلَيْهِ
السَّلاَمُ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ لاَ وَاللَّهِالَّذِى
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ آمَنْتُبِاللَّهِ
وَكَذَّبْتُ بَصَرِى
» أجاب المخالف: قال ابن حزم: " ليس يلزمنا
شرععيسى عليه السلام وقد يخرج هذا الخبر على أنه رآه
يسرق أي يأخذ الشيء مختفيا بأخذهفلما قرره حلف وقد يكون صادقا لأنه أخذ ماله من
ظالم له"
الرد على قصة أبي جهمبن حذافة: قال المخالف: أما قصة أبي جهم فليست من القضاء في
شئ، وإنما هي من بابالسياسة الشرعية وتأليف القلوب، وتقوية الإيمان
في النفوس، فقد أراد النبي صلى اللهعليه وسلم أن يضرب لأصحابه مثلاً في التسامح
والعفو، ولأنهم قوم جاهلون، فلميؤاخذهم بما صدر منهم، ولو كان ذلك من القضاء
لأحضر النبي صلى الله عليه وسلم أباجهم ليدافع عن نفسه، وليجعل القضية تأخذ مجراها
كسائر القضايا. أما الآثارالمروية
عن أبي بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف:
قال المخالف: فلا يصح الاحتجاجبها
إذ هي معارضة لما روي عنه في تجويز القضاء بالعلم، وقول الصحابة لا يعتبر حجةإذا
عارضه قول صحابي آخر، فكيف وقد عارضه قول رسول الله صلى الله عليهوسلم. يقول ابن حزم: فوجدنا من منع من أن يحكم الحاكم
بعلمه يقول هذا قول أبيبكر وعمر وعبد الرحمن وابن عباس ومعاوية ولا يعرف
لهم مخالف من الصحابة فقلنا هممخالفون لكم في هذه القصة لأنه إنما روى أن أبا
بكر قال أنه لا يثيره حتى يكون معهشاهد آخر وهو قول عمر وعبد الرحمن أن شهادته شهادة رجل من
المسلمين فهذا يوافقمن رأى أن يحكم في الزنى بثلاثة هو رابعهم وبواحد
مع نفسه في سائر الحقوق، وأيضافلا حاجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه
وسلم"
وأجيب على استدلالهمبأن
تجويز القضاء بالعلم يفضي إلى أن يستغل القضاة ذلك لتحقيق أغراضهم الشخصية بأنهقول
يصعب التسليم به لأن من شروط من يلي منصب القضاء أنه عدل، والعدول لا تتطرقإليه
التهمة، وحتى لو سلم بذلك فإن التهمة متصورة في شهادة الشهود، ومع ذلك لم تكنماتعن
من قبول شهادتهم.
(ب) مناقشة أدلة المدرسة الثانية:
أجيب علىما استدل
به أنصار المدرسة الثانية على جواز أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي، أن قولهتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَلِلَّهِ
وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْيَكُنْ
غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواالْهَوَى
أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَبِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيراً)
أجاب المخالف: لا دلالة فيه على جواز القضاءبالعلم
وذلك لأن القاضي إنما لم يحكم للمظلوم لأنه لم يأت بحجة يستند القاضي عليهافي
حكمه. فالحاكم معذور إذ لا حجة معه يوصل بها صاحب الحق لحقه. وفي هذه الحالة لايكون
ممتنعاً من القيام بالقسط. أما استدلالهم بآيتي الزنا والسرقة: (2) كمااحتجوا
بقوله تعالى:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍمِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواأَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌحَكِيمٌ) أجاب المخالف: إن آيتي الزنا والسرقة إنما نزلتا
لبيان العقوبةالواجبة على من ارتكب هذين الفعلين لا لبيان
الطرق التي يحكم بها الحاكم. وأمااستدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليهوسلم-
يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْلَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَأَضْعَفُ
الإِيمَانِ » أجاب المخالف: هذا لا يدل على جواز الحكم بالعلم
ذلكلأنه أمر بتغيير ما يعلم الناس أنه منكر بحديث لا
يتطرق إلى المغير تهمة في ذلك.
أما أن يعمد القاضي إلى رجل مستور لم تقم أدلة
على ارتكابه منكراً فيرجحه، ويقولرأيته يزني، أو يقطع يده، ويقول رايته يسرق فإن
ذلك يؤدي إلى تطرق التهمة إليهوالتشكك في الدوافع التي حدت به إلى ذلك، وإن فتح
هذا الباب يفضي إلى أن يجد كل قاضالسبيل مهيئاً لقتل عدوه، أو التشهير به خاصة إذا
كانت العداوة خفية، لا يتمكنالمقضي عليه من إثباتها فلم يجز بهذا الحديث على
إطلاقه. وفضلاً عن ذلك فإن تغييرالمنكر ليس من القضاء وإنما هو من باب الحسبة. وأما استشهادهم بحديث: أبي هريرةقال:
"جاء رجلان يختصمانإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي
أقم البينةفلم يقمها. فقال للآخر: احلف، فحلف بالله الذي لا
إله إلا هو ماله عنده شئ، فقالرسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو عندك، ادفع
إليه حقه، ثم قال شهادتك أن لا إلهإلا الله كفارة يمينك" أجاب المخالف: هذا حديث ضعيف فقد: "أعله ابن حزم بأبييحيى
وهو مصدع المعرقب، كذا قال ابن عساكر، وتعقبه المزي بأنه وهم بل اسمه زياد كذااسمه
عند أحمد والبخاري وأبي داود في هذا الحديث. وأعله أبو حاتم برواية شعبة عنعطاء
بن السائب عن البختري بن عبيد. ثم إن النبي لم يقض بعلمه وإنما بالوحي يدل علىذلك
ما ذكره الشوكاني في بعض الروايات: وفي رواية لأحمد فنزل جبريل عليه السلام علىالنبي
صلى الله عليه وسلم فقال إنه كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه وكفارةيمينه
معرفة لا إله إلا الله"
وأما الإستدلال بحديث (بينتك أو يمينه): أجابالمخالف: "فإن البينة اسم لما يبين الحق
بحيث يظهر المحق من المبطل، ويبين ذلكللناس، وعلم الحاكم ليس ببينة" كما أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون حجة على محلالنزاع،
لأن بعض رواياته لم يرد فيها لفظ بينة، فقد ورد في مسند أحمد: "عَنِالأَشْعَثِ
بْنِ قَيْسٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَاخْتَصَمَا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى أَرْضٍ بِالْيَمَنِفَقَالَ
الْحَضْرَمِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى اغْتَصَبَهَا هَذَا وَأَبُوهُ. فَقَالَ
الْكِنْدِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِى. فَقَالَالْحَضْرَمِىُّ
يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَحْلِفْهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَاأَرْضِى
وَأَرْضُ وَالِدِى وَالَّذِى اغْتَصَبَهَا أَبُوهُ. فَتَهَيَّأَالْكِنْدِىُّ
لِلْيَمِينِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهُلاَ
يَقْتَطِعُ عَبْدٌ - أَوْ رَجُلٌ - بِيَمِينِهِ مَالاً إِلاَّ لَقِىَ اللَّهَيَوْمَ
يَلْقَاهُ وَهُوَ أَجْذَمُ ». فَقَالَ الْكِنْدِىُّ هِىَ أَرْضُهُ وَأَرْضُوَالِدِهِ" أما استدلالهم بحديث سعد بن الأطول: عَنْ أَبِى
نَضْرَةَ عَنْسَعْدِ بْنِ الأَطْوَلِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ
وَتَرَكَ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍوَتَرَكَ عِيَالاً فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا
عَلَى عِيَالِهِ فَقَالَ النَّبِىُّ
-صلى الله عليه وسلم- « إنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ
بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ
». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَدَّيْتُ
عَنْهُ إِلاَّ دِينَارَيْنِادَّعَتْهُمَا امْرأَةٌ وَلَيْسَ لَهَا
بَيِّنَةٌ. قَالَ « فَأَعْطِهَا فَإِنَّهَُامُحِقَّة"ٌ
أجاب المخالف: لا وجه للاحتجاج به لأنه ليس في محل النزاع، إذ المرأة لمتطلب
منه أن يحكم لها بالدينارين، وإنما استفتى الرجل الرسول صلى الله عليه وسلمفيما
أودعته فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائها احتياطاً وإبراء لذمة الميت. فهذا
الحديث من قبيل الفتيا وليس من باب القضاء بالعلم. ومع التسليم بأنه عليهالسلام
حكم لها بعلمه فإنه لا يصح الاستدلال به، لأن المنع من القضاء بالعلم إنماهو
لأجل التهمة وهي منقبة في حقه صلى الله عليه وسلم. قال في الطرق الحكمية: "فإن المنع من حكم الحاكم بعلمه إنما هو لأجل
التهمة وهي معلومة الانتفاء من سيدالحكام صلى الله عليه وسلم" أما حديث هند بت عتبة: "عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّهِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌشَحِيحٌ ، وَلَيْسَ يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِى
وَوَلَدِى ، إِلاَّ مَا أَخَذْتُمِنْهُ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ « خُذِى مَا
يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِبِالْمَعْرُوفِ " أجاب المخالف: قال ابن القيم: "وهذا الاستدلال ضعيف جداً. فإن
هذا إنما هو فتيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حكم. ولهذا لم يحضرالزوج،
ولم يكن غائباً عن البلد، والحكم على الغائب عن مجلس الحكم الحاضر في البلدغير
ممتنع وهو يقدر على الحضور ولم يوكل وكيلاً، لا يجوز اتفاقاً. وأيضاً فإنها لمتسأله
الحكم، وإنما سألته (هل يجوز لها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي بنيها) وهذااستفتاء
محض، فالاستدلال به على الحكم سهو"
وقال الشوكاني: " ومن جملة ما استدلبه
البخاري على الجواز حديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي صلى الله عليهوسلم
أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها. قال ابن بطال: احتج من أجاز للقاضي أن يحكمبعلمه
بهذا الحديث لأنه إنما قضى لها ولولدها بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبيسفيان،
ولم يلتمس على ذلك بينة. وتعقبه ابن المنير بأنه لا دليل فيه لأنه خرج مخرجالفتيا
وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي، انتهى. فإن قيل إن محلالدليل
إنما هو عمله بعلمه أنها زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا التعقب. فيجاب بأن الذييحتاج
إلى معرفة المحكوم له هو الحكم لا الإفتاء، فإنه يصح للمجهول، فإذا ثبت أنذلك
من قبيل الإفتاء بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها زوجة. وقد تعقب الحافظ (أي ابنحجر)
كلام ابن المنير فقال: وما ادعى نفيه بعيد، فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرهابالأخذ،
واطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون سواه، فلا بد من سبق علم. ويجاب عن هذابأن
الأمر لا يستلزم الحكم؛ لأن المفتي يأمر المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك منالحكم
في شيء"
وأما حديث أبي سعيد الخدري:
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلىالله
عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِفَإِنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِوَذَلِكَ
أَضْعَفُ الإِيمَانِ
» أجاب المخالف: فليس في هذا الحديث ما يدل صراحةأو
ضمناً على تجويز القضاء بالعلم، وغاية ما تضمنه الحث على الجهر بالحق دون اعتبارلأحد
هذا إنما يتصور فيما يعلم الناس أنه حق، ولكن لا يجرءون على التصريح به خوفاًمما
قد يلحقهم من وراء ذلك. وهذا بخلاف ما ينفرد القاضي بعلمه، فإنه لا يدري أحكمبحق
أم بباطل فيكون عرضة للاتهام. قال ابن القيم:
"هو مأمور بتغيير ما يعلمالناس
أنه منكر، بحيث لا يتطرق إليه تهمة في تغييره. وأما إذا عمد إلى رجل مع زوجتهوأمته
قط، ففرق بينهما، وزعم أنه طلق وأعتق. فإنه ينسب ظاهراً إلى تغيير المعروفبالمنكر،
وتطرق الناس إلى اتهامه والوقوع في عرضه. وهل يسوغ للحاكم أن يأتي إلى رجلمستور
بين الناس، غير مشهور بفاحشة، وليس عليه شاهد واحد بها، فيرجمه، ويقول: رأيتهيزني؟
أو يقتله ويقول: سمعته يسب؟ أو يفرق بين الزوجين، ويقول: سمعته يطلق؟ وهل هذاإلا
محض التهمة؟ ولو فتح هذا الباب ـ ولا سيما لقضاة الزمان ـ (أي زمان ابن القيم) لوجد
كل قاض له عدوٌّ السبيلَ إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه، والتفريق بينه وبينامرأته،
ولا سيما إذا كانت العداوة خفية، لا يمكن عدوه إثباتها، وحتى لو كان الحقهو
حكم الحاكم بعلمه، لوجب منع قضاة الزمان من ذلك. وهذا إذا قيل في شريح، وكعب بنسوار،
وإياس بن معاوية، والحسن البصري، وعمران الطلحي، وحفص بن غياث، وأضرابهم: كانفيه
ما فيه"
وأما حديث خزيمة بن ثابت:
"فَأَقْبَلَ النَّبِىُّ -صلى اللهعليه
وسلم- عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ « بِمَ تَشْهَدُ ». فَقَالَ بِتَصْدِيقِكَ يَارَسُولَ
اللَّهِ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَهَادَةَخُزَيْمَةَ
بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ"
قال المخالف: لا وجه للاستدلال به لأنه لميثبت
أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم لنفسه، إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه أخذالفرس
قهراً من الأعرابي. أما القول: إن القضاء بالعلم أولى من القضاء
بالظنالمستفاد عن الشهادة: قال المخالف: أصل النزاع في تصديق القاضي في
ادعائه العلمبالواقعة المعروفة أمامه. واحتمال صدقه في ذلك
أمر مظنون، والظن في صدق الشهود أقوىمن الظن في صدق القاضي لزيادة عددهم. كذلك فإنهم
في هذا القول قد بنوا علىاستدلالهم على أن حكم القاضي المنسوب إلى علمه،
لا بد وأن يكون موافقاً لما تحققهوقطع به وهذا غير مسلم، لأن الحكم المنسوب إلى
علم القاضي كما يحتمل أن يكونموافقاً لما تحققه وقطع به يحتمل أيضاً أن يكون
بخلاف ذلك لمؤثر من المؤثرات. وعلىهذا يكون ما افترضوه من أن حكم القاضي المنسوب
إلى علمه يكون موافقاً لما تحققهوقطع به ترجيح بلا مرجح. أما قبول اعتماد القاضي على علمه في الجرح
والتعديلفإن ذلك ليس بحكم كما ذهب إليه كثير من العلماء،
إذ يجوز لغيره العمل بخلافه ولوكان حكماً لما ساغ ذلك. لأن نقض الحكم من غير سبب
شرعي لا يصح وإذا لم يكون ذلكحكماً لم يجز القياس عليه. وأما الرد علي من يفرق بين القضاء في الحدود
والقضاءفي غيرها بحيث لا يجيز للقاضي أن يحكم بعلمه في
الحدود ويجيز له أن يحكم بعلمه فيحقوق العباد الخالصة أو المشتركة؛ فإن هذه
التفرقة غير مسلم بها لأن التهمة إذاكانت متصورة في الحدود فهي متصورة أيضاً فيما
عداها إذ من الجائز أن يتواطأ القاضيمع المدعي أو مع خصم المتهم.
(ج) ملخص لآراء الفقهاء في قضاء القاضي بعلمهمن
عدمه:
من خلال استعراضنا للآراء المختلفة لفقهاء
الإسلام حول قضاء القاضيبعلمه نختصرها على النحو التالي: الإمامية: "الإمام عليه السلام يقضي بعلمهمطلقاً،
وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وحقوق الله سبحانه. أما غيرالإمام
من القضاة فله الحكم في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه، على قولين أصحهماالقضاء.
ويجوز أن يحكم في ذلك كله، من غير حضور شاهد يشهد الحكم." الشافعية: قالوا يقضي بعلمه فيما علمه في زمن ولايته
ومكانها أما ما علمه في غير ولايتهومكانها لا يقضي بعلمه. الشيعة الزيدية: لهم روايتان يقضي بعلمه والثانية
لايقضي بعلمه كما ذكر الشوكاني"قد حكى في
البحر عن الإمام يحيى وأحد قولي المؤيدبالله"
المالكية: لا يقضي القاضي بعلمه سواء علمه قبل
التولية أو بعدها في مجلسالقضاء أو غيره، قبل الشروع في المحاكمة أو بعد
الشروع فهو أشد المذاهب في ذلك.
وخالفه صاحباه: ابن سحنون وعبد الملك فقالا: يحكم
بعلمه فيما علمه بعد الشروع فيالمحاكمة. الحنابلة: أما مذهب أحمد ففيه ثلاث روايات:
"أحدها وهي الروايةالمشهورة عنه المتصورة عند أصحابه أنه لا يحكم
بعلمه لأجل التهمة. (الثانية) يجوزله ذلك مطلقاً في الحدود وغيرها. (والثالثة) يجوز
إلا في الحدود"
الحنفية: إذاعلم
الحاكم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومكانها جاز له أن يقضي به. أما ماعلمه
قبل ولا يته أو غير مكان ولا يته، فلا يقضي به عند أبي حنيفة. وخالفه أبو يوسفومحمد
بن الحسن فقالا: يقضي به كما في حال ولايته. أما الحدود فلا يقضي بعلمه فيها،لأنه
حق لله تعالى إلا في حد القذف فإنه يقضي بعلمه لما فيه من حقالعباد. الظاهرية: يقضي القاضي بعلمه في الدماء والأموال
والقصاص والحدود سواءقبل ولايته أو بعد ولايته.
أما بالنسبة للقوانين الوضعيةالحديثة:
فقد: "حكم في إنجلترا أنه إذا استبعدنا ما
يأخذ به القاضي علماًقضائياً، فإنه لا يجوز للقاضي أن يقضي في النزاع
المعروض بعلمه الخاص أو بناء علىمعلومات لا تتوافر للطرفين. والقاعدة التي تبدو
أنها تقوم على أساس أنه إن كانالقاضي قد توافر له علم خاص أو معلومات معينة
فيما يتعلق بالنزاع المطروح أمامه،فيجب عليه أن يقدم هو نفسه الدليل كشاهد أمام
المحكمة، قد اتبعها القضاء السوداني"
الرأي المختار:
أولاً: بعد عرض كل الآراء السابقة فإنني أرى
رجحانالرأي القائل بعدم جواز أن يحكم القاضي استناداً
إلى علمه الشخصي بالوقائع المعروضةعليه سواء في الحدود أو الحقوق المشتركة كالقصاص
وخاصة في إثبات جريمة القتل العمدللأدلة التي استند إليها القائلون بهذا الرأي. ثانياً: قضاء القاضي بعلمهالشخصي
وإن كان مستساغاً في بعض الأزمنة خاصة في صدر الإسلام فإن تجويزه في أيامناأمر
يصعب تصوره لأن الإيمان قد ضعف، ولأن كثيراً من الناس يضعون مصالحهم الشخصية فيالمقام
الأول دون إقامة وزن لموقف الشرع وتعليماته حتى لو وجد بعض القضاة الأمناءذوي
السمعة الطيبة، لكن ماذا عساناً أن نفعل في قضاة الغد ونحن لا نعلم عنهم شيئاً،والاحتياط
لدماء الناس وأعراضهم وأموالهم أمر في غاية الأهمية لا يقبل التفريط أوالتساهل.
وما أحسن قول ابن القيم في هذه القضية: "ولقد كان سيد الحكام صلوات اللهعليه
وسلامه يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم، ويتحقق ذلك، ولا يحكم فيهمبعلمه،
مع براءته عند الله وملائكته، وعباده المؤمنين من كل تهمة، لئلا يقول الناسإن
محمداً يقتل أصحابه. ولما رآه بعض أصحابه مع زوجته صفية بنت حيي قال: (رويدكماإنها
صفية بنت حيي) لئلا يقع في نفوسهما تهمة له. ومن تدبر الشريعة وما اشتملت عليهمن
المصالح وسد الذرائع تبين له الصواب في هذه المسألة"
ثالثا: كما أن القضاةبشر يجوز
عليهم ما يجوز على غيرهم أو كما قال الشافعي: (لولا قضاة السوء لقلت إنالقاضي
يحكم بعلمه). كما أن كثيراً من المحكوم عليهم لا تسلم بسهولة بتلك الأحكامالصادرة
عليهم سيحاولون الطعن فيها بمختلف الطرق على أسباب ظاهرة، فكيف يكون الوضعإذا
أعطى القضاة الحق بالاعتماد على معلوماتهم الشخصية في الوقائع المنظورة أمامهم. أو
ليس في هذا المنع حماية للقاضي نفسه ولمكانة القضاء من أن تزلزل في نفوس الناس. كذلك
فإن صفة القاضي بالنسبة لمعلوماته الشخصية أنه (شاهد) وثمة تناقض بين صفتيالقاضي
والشاهد. رابعاً: فإن المعلومات الشخصية للقاضي لا تعرض في
جلسة المحكمةولا تتاح فرصة مناقشتها وتقويمها ومن ثم الاعتماد
عليها مناقضاً لمبدأ الشفويةوالمواجهة الذي يسود مرحلة المحاكم. كما أرى أننا
لو أخذنا برأي من يرى جواز أنيقضي القاضي بعلمه الشخصي لكان هذا أشبه بما يسمى
سرية الأدلة المعمول بها الآن فيأمريكا وبريطانيا في قوانين مكافحة الإرهاب مع
الفارق أن هذه الأدلة السرية معلوماتاستخباراتية تعرض على القاضي ولا يطلع عليها
المتهم ولا حتى محاميه!! وهذا قريبالشبه من قضاء القاضي بعلمه لأنه سيحكم بدون
إطلاع المتهم، ولا موكله على الأدلة،وسيكتفي بالنطق بالحكم فقط !! مما يضر بمركز
المتهم وحقه في تفنيد الأدلة التي توجهضده. خامساً: وأخيراً درءاً للشبهات وسداً للذرائع
فأرى ألا يقضي القاضي بعلمهالشخصي وله أن يتنحى عن نظر القضية ويحيلها لقاض
آخر ثم يتقدم للشهادة كشاهد وليسكقاض كما هو معمول به في القوانين الوضعية
الحديثة.
أضف تعليق