الفصل الثاني من رسالة دكتوراة بعنوان ضمانات القاضي في الشريعة الإسلامية والقانون - دراسة مقارنة - رسالة مقدمة إلى مجلس كلية القانون في جامعة بابل , وهي جزء من متطلبات نيل درجة الماجستير في القانون من الطالب حامد إبراهيم عبد الكريم الجبوري
الفصل الثاني
ضمانات استقــلال القضــاء
يُعد استقلال القضاء من أهم المبادئ التي
يقوم عليها النظام القضائي في الإسلام ومؤداه أن السلطة القضائية مستقلة في
تأديتها أعمالها عن جميع السلطات الحكومية الأخرى ، ومن ثمّ ليس لأي سلطة أخرى
سواء كانت سلطة تشريعية أو سلطة تنفيذية أن تفرض إرادتها على السلطة القضائية في
أي عمل من أعمالها وهذا يقتضي أنه ليس لأي من هذه السلطات أن تفرض إرادتها في أية
دعوى معروضة على القضاء أو أن تنتزع منها أي دعوى عرضت عليها أو أن تعدل الأحكام
الصادرة عنها ، ذلك أن المبدأ في الشريعة الإسلامية أن القضاة لا يخضعون في تأدية
واجباتهم لغير الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية([1]) . ([2]) فالقضاء وهو إخبار عن حكم الشرع على وجه الإلزام
يقتضي أن يكون من يقوم بالإخبار هو القاضي ومن ثمّ فلا يجوز لأي كان أن يتدخل في عمل القاضي
للتأثير فيه على النحو الذي يحرفه عن الإخبار الصحيح عن حكم الشرع ، فواجب القاضي
هو الحكم بالعدل ، قال تعالى [وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل]
([3]).
أما عن استقلال القضاء في القانون فإنه إذا
كانت السلطة في التشريعات القديمة تعد حقاً شخصياً للحاكم إذ تتجمع كل السلطات في
يده فيمارس جميع الاختصاصات ويستأثر بجميع الامتيازات،ممّا ينفي وجود سلطة قضائية
مستقلة ، ويؤدي إلى أخطار بالغة على الحريات الفردية ويدفع الحاكم إلى الاستبداد
والطغيان ، لذا فإن هذا الأمر أدى إلى ظهور محاولات للحد من السلطة المطلقة مع
ظهور مبادئ الديمقراطية .وقد جاءت نظرية الفصل بين السلطات،تتويجاً لهذه المحاولات
، على يد عدد من الفلاسفة والمفكرين ، ويعدّ مونتسكيو أول من طرح هذه النظرية([4]) التي تستهدف الفصل بين الهيئات الحاكمة فصلاً عضوياً
بحيث تختص كل هيئة بوظيفة من وظائف الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية([5]).
وإذا
كانت نظرية الفصل بين السلطات لا تقوم على أساس إقامة فواصل قاطعة بين الوظائف
الثلاث للدولة وإنما إقامة تعاون ومشاركة في الاختصاصات تختلف من نظام إلى آخر ،
إلاّ أن الثابت في جميع الدساتير الديمقراطية إضفاء صفة الاستقلال التام للسلطة
القضائية والعمل على صيانة هذا الاستقلال تجاه السلطتين التنفيذية والتشريعية([6]).
من هنا
نجد أن فكرة استقلال القضاء أخذت بالتبلور والاستقرار , لذلك نجد أن إعلانات حقوق
الإنسان قد أكدتها من خلال النص عليها وإقرار ضمانات للقضاة وحماية حق التقاضي ،
فقد نصت على ذلك المادة (10) من الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة وجاء فيها أن [لجميع الأفراد على
السواء الحق في محاكمة عادلة علنية أمام محكمة مستقلة محايدة تقرر حقوق الفرد
وواجباته]
([7])، وقد توالت دساتير العالم المتمدن في النص على مبدأ
استقلال القضاء وتوفير الضمانات اللازمة لاستقراره وثباته فقد نصت الدساتير
العربية في كل من العراق في دساتير عام 1964 و 1968 و1970([8]). والدستور المصري لعام 1971م([9])و
الدستور السوري لعام 1973م([10])
والدستور الليبي لعام 1969م([11])
، على أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون .
والحقيقة أن مبدأ الفصل بين السلطات قد
أضحى من المبادئ الراسخة في الفكر القانوني والسياسي على حد سواء وإن اختلفت درجة
تبني هذا المبدأ من دولة إلى أخرى أو من مفكر إلى آخر كما أن الدساتير نصت عليه في
معظم دول العالم .
وانطلاقاً من هذه الأهمية التي يحتلها
موضوع استقلال القضاء فقد مهدنا له ثم قسمنا هذا الفصل على ثلاثة مباحث نتاول في
المبحث الأول استقلال القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ثم نتناول
نظام اختيار القضاة كون اختيار القضاة وطريقة هذا الاختيار ، تكفلان للقضاة
الاستقلال المطلوب عن السلطتين التنفيذية و التشريعية إنطلاقاً من أن توليهم وظيفة
القضاء يكون استناداً لكفاياتهم واستحقاقهم ولأهمية هذا الموضوع فقد أفردنا له
المبحث الثاني ، كذلك فإن الضمانات اللازمة للقضاة في عدم اعتمادهم في مواردهم
المالية على أي جهة وعدم وضعهم تحت هيمنتها ، وكذلك الضمانات اللازمة لهم في مجال
إداء الوظيفة القضائية على النحو الذي يبعدهم عن أي ضغوط يمكن أن يتعرضوا لها ،
ولأهمية هذا الموضوع فقد أفردنا له المبحث الثالث تحت عنوان النظام المالي
والإداري للقضاة .
([1]) باقر شريف ، المصدر السابق ، ص 335 . و د. محمد نعيم عبد السلام ياسين . نظرية
الدعوى بين الشريعة الاسلامية وقانون المرافعات المدنية والتجارية , القسم الاول ,
منشورات وزارة الاوقاف , مطبعة القوات المسلحة الاردنية , ص 52 .
([2]) يجب الانتباه الى ان هناك مساحة شاسعة بين
الفقه الاسلامي الذي يمثل احكام الشريعة في القضاء وبين تصرفات بعض الحكام في
الدولة الاسلامية في عصور الملكية والانحراف عن احكام الاسلام , بمعنى ان تصرفات
هؤلاء لا تعبر عن حكم الشرع الاسلامي ومن ثمّ لا تمثل مبدأ يعتمد عليه في تقرير
استقلال القضاء من عدمه في الشريعة الاسلامية .
([4]) يناقش بعض الفقهاء في أن ما نسب إلى مونتسكيو
من القول بمبدأ فصل السلطات غير دقيق إذ يقول ديجي أن مونتسكيو لم يستعمل مصطلح
الفصل بين السلطات ولا مرة كما أنه لم يذكر أن هناك هيئات مختلفة في الدولة تمارس باسم
الأمة امتيازات السيادة ، غير أن المؤيدين لفكرة الفصل بين السلطات – والكلام
لديجي – يحاولون تسويغ موقفهم بالاستناد إلى مقولة مونتسكيو المشهورة [سيضيع كل
شيء إذا مارس نفس الشخص أو المجموعة نفسها من المسؤولين أو النبلاء أو الناس او
السلطات التي تمثل صنع القوانين وتنفيذ القرارات العامة والحكم على الجرائم و
الفصل في المنازعات التي تثور بين الناس] . وأن ديجي قد فسر هذه المقولة تفسيراً محدداً ، وهو أن مونتسكيو قد أكد بهذا
القول أن الحرية لن توجد في بلد يمارس فيه مختلف الوظائف نفس الإنسان أو نفس
المجموعة من الناس بمفردهم وبغير رقابة وهو يؤكد بأن القول بأن السيادة في الدولة
واحدة وغير قابلة للإنقسام ، ومع ذلك هناك ثلاث سلطات لكل منها سيادة ، ما هو إلاّ
نظرية ميتافيزيقية ، إضافة إلى أن موطن نشوء نظرية الفصل بين السلطات وهو فرنسا
استقر فيها الأمر أخيراً على عدم اعتبار القضاء سلطة وأكد ذلك دستور عام 1958 الذي
أطلق على الجهة القضائية تسمية الهيئة وهو
يؤكد العدول عن وصفها بأنها سلطة كما يتبنى ذلك معظم الفقه الفرنسي . د. محمد
عصفور ، المصدر السابق ، ص20 وما بعدها .
ويلاحظ أن الفكر الماركسي
يتبنى هذه الرؤية ، أي عدم عدّ الجهة القضائية سلطة ويهاجم مبدأ الفصل بين السلطات
، وهو يرفض كل توزيع للسلطة أو تقسيم لها . بخلاف النظم الغربية التي تبنت نظرية
الفصل بين السلطات و التي تعدها من انجع الوسائل التي تكفل الحرية لأنها تهيئ جواً
من الاعتدال في شؤون الحكم . د. سليمان الطماوي ، السلطات الثلاث , مصدر سابق ،
ص437 .
وجدير بالذكر أن بعضهم الآخر
يرفض هذا الفكر ويرى رداً على الحجج السابقة أن ما قيل من التحول في تسمية الهيئة
القضائية من سلطة إلى هيئة لا يعني أن القضاء صار مرفقاً في الدولة يخضع لما تخضع
له المرافق الأخرى ، كما أن استخدام دستور عام 1958 لهذا التعبير هو بسبب تأثر
واضعي الدستور بالتعبيرات الغالبة في القانون الإداري . كما أن ما يجري في فرنسا
لا يمكن الاستشهاد به أو القياس عليه ذلك أن لها أوضاعاً تاريخية خاصة تتسم بتعسف
الجهات القضائية قبل الهيئتين التنفيذية والتشريعية . د. محمد عصفور ، المصدر
السابق ، ص207 . ومهما يكن من أمر فالغالب هو اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات في
الفقه حقيقة ثابتة فضلاً عن النص عليها في الدساتير لأغلب الدول وعدّ القضاء سلطة
على قدم المساواة مع السلطتين الأخريين لا وظيفة . فاروق الكيلاني ، المصدر السابق
، ص 18-19 .
([5]) خليل جريح العاني ، الرقابة القضائية على
أعمال التشريع ، مطبعة الجيلاوي ، القاهرة 1971 ، ص36 وما بعدها .
أضف تعليق