التقاء الساكنين بين الحقيقة والوهم ( )
د.
جعفر نايف عبابنة
الجامعة الأردنية
تمهيد:
قضية التقاء الساكنين قضية صوتية مهمّة، عني بها الباحثون العرب قديماً
وحديثاً، واختلفت فيها الآراء ومناهج التحليل.
ويعد التقاء الساكنين من أهم علل الحذف لدى العلماء العرب القدماء في باب
الإعلال خاصة. غير أنه قد علقت به بعض الأوهام، وفُسِّرت به خطأً كثير من التغيرات
والسلوكات الصرفية.
ويتم التقاء الساكنين عند القدماء في أربع صور. الصورة الأولى منها هي
التقاء ساكنين كلاهما حرف صحيح (أي صامت بعرف المحدثين). والثانية هي التقاء
ساكنين أولهما حرف مد وثانيهما حرف صحيح. والثالثة التقاء ساكنين كلاهما حرف مدّ.
والرابعة التقاء ساكنين أولهما حرف صحيح وثانيهما حرف مدّ. أما النوعان الأول
والثاني فهما المبوب لهما في كتب الصرف ويُتناولان في باب التقاء الساكنين خصوصاً. وأما النوعان الآخران
فليس مبوباً لهما في كتب الصرف، وتتناثر الإشارات إليهما في ثنايا الحديث عن بعض
السلوكات الصرفية، أو في المعالجات
الصوتية لبعض الصيغ والتغيرات الصرفية.
ولا بد للباحث من التنقيب عن تلك الإشارات في كتب الصرف والأصوات لتكوين فكرة
شاملة عنهما.
ويتصل التقاء الساكنين اتصالاً وثيقاً بكثير من القضايا الصوتية، من مثل
طبيعة المدّ واللين، وعلاقة الحركات بحروف المدّ واللين، وقضية المتحرك والساكن،
والبناء المقطعي للغة العربية.
فمن المفاهيم الشائعة لدى القدماء أن حرف المدّ هو حرف العلة الساكن
المسبوق بحركة من جنسه، مثل الألف في قامَ وسارَ وكِتاب، والواو في نُور وسُوق
وعَجُوز، والياء في ديِن وسَعيد وعَرِين. وحرف اللين هو الواو أو الياء الساكنتان
المسبوقتان بفتحة([1])، مثل الواو في حَوْض وذَوق، والياء في بَيْت
وزَيْت. وحرف العلة عندهم هو الواو والياء المتحركتان كالواو في وَرَق والياء في
يُسْر، وهما مضارعتان للحروف الصحيحة لاحتمالهما الحركة.
على أن مفهوم العلة بإطلاقه يشمل عندهم الألف، والواو والياء من الأنواع السابقة كلها. وهي الحروف
التي اتَّسعت مخارجها، وتميز نطقها باليسر
والسهولة، وخرجت من تجويف الفم بلا إعاقة أو اعتراض لهواء الصوت([2]). وهذا ما يميزها عن سائر الحروف الصحيحة في
الألفباء العربية. ولعله أساس التقسيم إلى صحاح وعلل. وتتميز حروف العلة من
الناحية الصرفية عندهم بكثرة تبدّلها وتحوّلها وعدم استقرارها، على العكس مما نراه
في الحروف الصحيحة التي تتميز بقدر كبير من الثبات.
وقد جمع القدماء بين حروف المدّ واللين في مجموعة صوتية واحدة، على الرغم
من التفريق النظري بينهما، وملاحظة أن حروف اللين تتصرف كالحروف الصحيحة في مواضع
متعددة. فإذا التقى ساكنان أولهما حرف لين كالواو في اخْشَوْا والياء في اخْشَيْ،
يُتَخَلَّصُ من التقاء الساكنين بإدخال حركة بعد حرف اللين (اخْشَوُا الله،
اخْشَيِ الله) تماماً كما يحدث بين الساكنين الصحيحين، وإذا التقي ساكنان أولهما
حرف مدّ، حُذِفَ حرف المدّ كحذف الواو والياء المدّتين في الفعلين المجزومين لم
يَقُمْ ولم يَسِرْ ([3]).
ولذلك لم يكن القدماء يميزون –أو يحفلون بالتمييز- بين واو المد في يركضون
وواو اللين في يَسْعَوْنَ، أو بين ياء المدّ في تشربِين وياء اللين في تَخْشَيْنَ.
وكانوا يجمعونهما في اللفظ هكذا: حروف المدّ واللين. وربما أشاروا إلى اللين بالمد([4])، أو إلى المدّ باللين([5]).
بل حاول بعض العلماء تصنيف الألف على أنها حرف مدّ ولين معاً، لأنها ساكنة
مسبوقة بحركة من جنسها، وساكنة مسبوقة بفتحة. وهذا قول غير صحيح بتاتاً، ومبني على
استدلال منطقي لا على الحقائق الصوتية نفسها، فالألف من حيث طبيعتها الصوتية لا
تكون إلاّ حرف مدّ، أي حركة طويلة خالصة، كما سنبينه بعد قليل.
وثمة خلاف بين القدماء والمحدثين في النظرة إلى حروف المد واللين.
فالمحدثون ينكرون أن تكون حروف المد مسبوقة بحركات من جنسها، لأن حروف المد هي
أنفسها حركات، وليس هناك تركيب في الحركات، فالحركة لا تدخل على الحركة من جنسها
أومن غير جنسها، طويلة كانت أو قصيرة، ولا بد من وجود فاصل بين حركة وأخرى، كما
تقضي بذلك قوانين التركيب المقطعي في العربية التي تمنع أن تتوالى حركتان في
المقطع الواحد، وتفرض أن يفصل بين الحركة
وأختها صامت أو شبهه([6]).
وينكر المحدثون كذلك أن تكون حروف المد ساكنة، إذ إنها حركات والحركة لا
تكون سكوناً، لأنها منافية للسكون بطبعها ([7]). وهم يفسرون قول القدماء بسكونها بأنهم
رأوها غير قابلة للحركة، لأنها متحركة بحركة ذاتها فأشبهت الساكن الذي لا يحرك، أو
رأوها من الناحية الكمية مساوية لحركة وحرف صحيح ساكن في العروض؛ فالسبب الخفيف
(لا) المؤلف من ساكن هو اللام، وحركة هي فتحة تصوروها تسبق حرف المد، ومد هو ألف-
يساوي من حيث الإيقاع الكمي السبب الخفيف (لَنْ) المؤلف من ساكن هواللام وحركة هي
الفتحة وساكن هو النون، ولو وضع أحدهما مكان الآخر لما حدث خلل في الوزن. وربما
نسبها القدماء إلى السكون لأنهم رأوا أنها من حيث الرسم الكتابيّ غير متلوة بحركات
قصيرة ([8]).
ويفصل المحدثون الواو والياء اللينتين عن سائر حروف المد، ويلحقونهما من
حيث النوع بالواو والياء المتحركتين، مستندين بذلك إلى فروق أساسية بين حروف المد
من ناحية، والواو والياء اللينتين أو المتحركتين من ناحية أخرى. فحروف المد لا
يصاحب نطقها أي احتكاك أو اعتراض لمجرى الهواء، ولا تفتتح المقاطع ولا تغلقها،
ويسمى المقطع المنتهي بها مفتوحاً، ولا تكون من حروف المادة الأصلية. أما الواو
والياء اللينتان أو المتحركتان فيرافق نطقهما احتكاك ما أي نوع ضعيف من الحفيف، وتفتتحان
المقاطع وتغلقانها، فالواو المتحركة في (وَقَف) تفتتح مقطعاً والواو الساكنة في
(مَوْقِف) تغلق مقطعاً.
والواو والياء اللينتان أو المتحركتان لا يمكن لهما أن تكونا قمة المقطع
العربي أو نواته أي العنصر الحركي فيه؛ فمعلوم أنه لا بد لكل مقطع من عنصر صائت يشكل
قمته أو نواته، وهو الجزء الذي يحمل أقصى التوتر فيه ويقع عليه النبر، فلا يقوم بهذه الوظيفة في العربية إلاّ
حركة قصيرة أو حركة طويلة (أي حرف مدّ). ولا تقوم الواو أو الياء اللينتان أو
المتحركتان بهذه الوظيفة على الرغم من شبههما بالحركات لاتساع مخرجهما.
وما حروف المدّ عند المحدثين إلاّ حركات طويلة خالصة؛ فالألف هي فتحة
طويلة، وواو المدّ هي ضمّة طويلة، وياء المدّ هي كسرة طويلة؛ وبذلك يُخْرِجون من
الحروف الصحاح الألف والواو والياء المدتين ويلحقونهما بالحركات أو الصوائت. وهم
يُدْخِلون في الصحاح أو الصوامت الواو والياء اللينتين أو المتحركتين، مع اعترافهم
بأن الواو والياء اللينتين أو المتحركتين تشبهان الحركات أو الصوائت من حيث اتساع
مخرجهما، وإن كان –على أية حال- أقل من اتساعه مع الحركات الخالصة، أي حروف المدّ
ومقابلاتها القصيرة وهي الفتحة والضمّة والكسرة، ويسمح بنوع ضعيف من الحفيف([9]).
ولذلك تقع الواو والياء اللينتان أو المتحركتان موقعاً فريداً في النظام
الصوتي العربي، فيصحّ أن نطلق عليهما –لاتساع مخرجهما- أشباه الحركات أو الصوائت
أو العلل، وأن نطلق عليهما كذلك أشباه الصحاح أو الصوامت ([10])، لشبههما بالصوامت من حيث طبيعتهما النطقية
التي تتطلب نوعاً من الاحتكاك، ومن حيث الوظيفة التي تؤديانها في المقطع والجذر
والسلوكات الصرفية بعامة، ولقبولهما الحركة والسكون كالصوامت تماماً. وسنحاول في
هذا البحث أن نبرز طبيعتهما الصامتة، لأنها أحد المداخل لتوهين آراء بعض القدماء
فيما يخصّ التقاء الساكنين.
ومن أوجه الفرق كذلك بين القدماء
والمحدثين فيما يخص طبيعة المدّ واللين وعلاقة الحركات بهما، ما يراه القدماء من
أن الحركات المجانسة التي تسبق حروف المدّ يمكن أن تنقل إلى الحرف الذي يسبقها،
وأنها يمكن أن تحذف وتختزن ثم تسترد لتأخذ مكانها في موضع آخر، بعد إجراء تغييرات
لفظية معينة. وعند المحدثين أن هذا غير صحيح وأن لا وجود أصلاً لحركات مجانسة تسبق
حروف المد، وأن هذا محض خيال.
ومن الأفكار الأساسية عند القدماء فكرتهم عن المتحرك والساكن التي بنوا
عليها تقسيماتهم العروضية وربّما الصرفية. فالمتحرك عندهم هو الحرف الصحيح أو
الصامت الذي تتلوه حركة. والساكن يأتي على ضربين: ساكن يمكن تحريكه، وساكن لا يمكن
تحريكه. والأول منهما يشمل جميع الحروف ما عدا الألف، والثاني هو الألف في نحو
كتاب وحساب وباع وقام([11]).
ويفهم من كلام القدماء بهذا الخصوص أن الساكن الذي يمكن تحريكه هو الحرف
الصحيح، فهو قابل للحركة وللسكون، وأن الساكن الذي لا يمكن تحريكه هو حرف المدّ
الألف، فهو الأصل في السكون لأنه لا يأتي إلا ساكناً. ويُحْمَلُ عليه الواو والياء
المدّتان لأنهما تشبهانه في لزوم السكون وعدم التحريك. أما الواو والياء المتحركتان
فهما قابلتان للحركة كالحروف الصحيحة.
وعند المحدثين أن الحروف الصحيحة أو ما يسمى بالصوامت هي وحدها التي تقبل
الحركة والسكون، ويلحق بها الواو والياء اللينتان والمتحركتان. أما حروف المدّ فلا
تقبل الحركة ولا السكون، ومن الخطأ وصفها بالسكون، لأنها –كما أسلفنا- حركات منافية بطبعها للسكون([12]).
ورأوا في قول القدماء بسكون حروف المد بذور فكرة منطقية مؤدّاها أن حروف
المد ما دامت لا يمكن أن تصفها بالحركة فلا بد أن تكون ساكنة، وبذور فكرة عروضية
مفادها أن حرف المد والمتحرك الذي قبله يمكن تمثيله بالرمز (-5) ([13]).
وبربط كثير من المحدثين ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين بالتركيب المقطعي
في اللغة العربية الفصيحة، ويرون أن إدخال الحركة بعد الساكن الأول عند التقاء
صحيحين ساكنين، وتقصير حرف المد (ويسميه القدماء حذفاً) عند التقاء ساكنين أولهما
حرف مد وثانيهما حرف صحيح، إنما يجري للتخلص من تركيبين مقطعيين يستثقلهما الذوق
اللغوي العربي، وهما المقطع المزدوج الإغلاق (ص ح ص ص) المؤلف من صامت فحركة قصيرة
فصامتين، والمقطع المغلق ( ص ح ح ص) المؤلف من صامت فحرف مدّ (حركة طويلة) فصامت([14]).
واضح إذاً أن المحدثين لا يقبلون كثيراً من حجج القدماء والأسس التي
انطلقوا منها في بعض معالجاتهم الصرفية، مثل مساواتهم في النظرة بين حروف المدّ واللين، ومثل القول بأن حروف المدّ
ساكنة، وأنها مسبوقة بحركات من جنسها، وأن الحركات التي تصوروها تسبق حروف المدّ
يمكن أن يتصرف فيها بالحذف والنقل، أو حذفها واختزانها لتظهر في مواقع جديدة بعد
تطبيق قواعد معينة. كا أن المحدثين يربطون ما بين التقاء الساكنين والنسيج المقطعي
للغة العربية.
ومن هذه المآخذ على كلام القدماء وغيرها، وبناء على معطيات علم الأصوات
الحديث، نمضي في تناول موضوع التقاء الساكنين، مثبتين ما يصح أن ينسب حقيقة إلى
هذا الباب، وكاشفين عمّا ليس منه، كل ذلك مدعوماً بالحجج والبراهين والتفسيرات
الملائمة.
.[1] وقد يقصدون بحرف اللين الواو والياء الساكنتين
غير المسبوقتين بحركة من جنسهما وهذا يشمل الفتحة وغيرها، وإن كان ما ذكرناه هو
الأصل في اللين.
.[6] انظر كمال محمد بشر، دراسات في علم اللغة القسم
الأول، ص 201؛ وداود عبده، دراسات في علم أصوات العربية، ص 46 حاشية (2)؛ وأحمد
الفيومي، أبحاث في علم أصوات اللغة العربية، ص79؛ والطيب البكوش، التصريف العربي
من خلال علم الأصوات الحديث، ص74؛ وإبراهيم أنيس الأصوات اللغوية، ص40.
.[7] انظر كمال محمد بشر، دراسات في علم اللغة القسم الأول، ص55 حاشية (1) وص 201؛ وأحمد
الفيومي، أبحاث في علم أصوات اللغة العربية، ص77؛ وداود عبده، دراسات في علم أصوات
العربية ، ص47 حاشية (5)؛ وأحمد عبد العظيم عبد الغني، قضايا صرفية، ص60.
.[8] انظر كمال محمد بشر، دراسات في علم اللغة القسم
الأول، ص201-202؛ وتمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، ص71؛ وغالب المطلبي،
في الأصوات اللغوية، ص76-77؛ ومحمد العلمي، "الأسباب والأوتاد
والفواصل"، ص 263.
فضلاً وليس أمراً
اترك تعليقاً هنا