العلاقة بين اللغة والثقافة، وتأخذ شكل التأثر والتأثير، فهما في حالة تفاعل متبادل؛ لأنهما نتاج الواقع الموضوعي، وإفراز لأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية سائدة في المجتمع،
تضمينات وتوصيات
تتشابك العلاقة بين اللغة والثقافة، وتأخذ شكل التأثر والتأثير، فهما في حالة تفاعل متبادل؛ لأنهما نتاج الواقع الموضوعي، وإفراز لأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية سائدة في المجتمع، فلا مناص من دَرْس مسألة اللغة والتواصل الإعلاني باستدعاء الأثر الثقافي في هذه المسألة، فاللغة ليست ماهيّة مجردة عن الأبعاد الداخلية والخارجية، ويتعيَّن أن نفهم اللغة فهماً دقيقاً بعَزْو مسائل اللغة إلى مقاماتها الصحيحة. والثقافة أيضاً ليست محتوى موضوعياً نفرغه في اتجاه مُستهلِك الإعلان، الذي اعتاد أن يتناول الموضوع الإعلاني بدوافع داخلية ومنبهات سيكولوجية وفسيولوجية ومنبهات خارجية كالبعد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، إلى غيرها من المؤثرات، التي تسهم في تحقيق الرسالة التواصلية القائمة بين المُرسِل والمستقبِل، فالثقافة في هذه العملية موضوع وذات في الوقت نفسه لا ينفصلان، ويندرج ضمنها اللقاء الواعي للذاتية مع نفسها، فهي تخاطب روح كل واحد منا، ولعل كثيراً من سلوكنا صادر عن قيم ثقافية ثاوية في مجاهل النفس.
ولهذا فإنَّ هذه
الانطباعات التي تمخَّض عنها الاستطلاع الذي وزِّع على الزبائن والتجار يشفُّ عن
أسباب ثقافية – في الأغلب- تنطوي على استخدام الأسماء الأجنبية وانتشارها في
اللافتات التجارية. فكثير من الآراء أسفرت في هذا الإقبال على المسمَّيات الأجنبية
عن رغبة في التماهي مع الآخر (المتقدِّم)، فيرتبط هذا الدافع بمضمون مُضْمَر في
اللاشعور المشحون بطاقة تبحث لها عن متنفَّسٍ مباشرٍ أو محوَّلٍ؛ في محاولة
لامتلاك ذات أخرى نقيضة."وهو ما يطلق عليه علماء النفس بالمرجع
الاستلابي"(13)، فيحاول المرء أن يلتقط أي فرصة لإثبات انفصاله عن
وضعه الدوني وتقليد الأُنموذج المتحضِّر.
ولعل هذا التوصيف تردَّد
عند ابن خلدون في مقدمته حين عرض لأثر ثقافة الغالب في المغلوب، "فالمغلوب
مُولَعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده،
والسبب في ذلك أنًّ النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها، وانقادت إليه، إما
لنظره بالكمال بما وَفُرَ عندها من تعظيمه، أو لمِا تُغَالِط به من أنَّ انقيادها
ليس لِغَلْب طبيعي إنما هو لكمال الغالب ...
لذلك ترى المغلوب يتشبّه
أبداً بالغالب في مَلْبَسه ومَرْكَبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر
أحواله ..."(14).
فكثير من مستخدمي الأجنبية
كما بيَّنت الدراسة لا ينبعث موقفهم هذا من اعتقادهم بعجزهم في العربية، أو عجز
العربية عن الأداء، بقدْر ما هو إعجاب يصل إلى حد الاستسلام للحضارة الغربية التي
توفِّر لهم تعويضاً لنقص يهجسون به، كما يعدّون إتقان الأجنبية مميّزاً طبقياً يدل
على المكانة الاجتماعية، فالقوي يعمل على إنتاج المعنى واحتكاره. واللغة كأي منشط
في الحياة تقوى بقوة أبنائها، وتضعف بضعفهم، وقد أشار ابن حزم إلى هذا الملْمَح
بقوله:" إنّ اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم في
مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يفيد لغة الأمة وعلومها
وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم ...
وأما من تَلِفَت دولتهم،
وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت
الخواطر، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيود علومهم،
هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة"(15).
ليست المشكلة في اللافتات
التجارية بحد ذاتها، بل في توجهاتها التي ترسخها في أبناء العربية، فالمسمَّى
الأجنبي يعمل على بناء تصوُّر عن العالم ونمط من الوجود تقوم مرجعيته الأساسية
وأحكام قيمته على التماهي مع حضارة الآخر، دون النظر إلى ما يستبطنه هذا النهج من
وبال على اللغة والثقافة العربيتين.
يرى العالِم البلجيكي مارك
ريشال :" أنَّ في الاصطدام الثقافي
سقماً حقيقياً ينتاب الثقافة المصدومة.
وهو يعني بذلك أنَّ
الثقافة المصدومة تصبح ثقافة هزيلة، وبالفعل أصبحت ثقافتنا هزيلة مذ اصطدمت بثقافة
الغرب، إذ لم يكن التقاء الثقافتين لقاء ود وحوار، بل كان لقاء غلبة واستيلاء،
فحصل ما يحصل في مثل هذه الحالات: قيام ازدواجية ثقافية ولغوية، أساسها الصراع بين
ثقافتين تحاول إحداهما الاستيلاء على الأخرى..."(16).
ويقتضي الموقف أن ننهض
لخدمة ثقافتنا القومية ولغتنا العربية برسم سياسة راشدة على المستوى الإعلامي
والتربوي، وقيام فِرَق بحث لوضع تصوّر معياري لما ينبغي أن تكون عليه لغة الإعلام
بشتى تحققاتها؛ للوصول إلى حالة مقبولة تأخذ بالاعتبار الحفاظ على الثقافة واللغة.
لتأخذا قيماً حضورية في حياتنا.
ولعل هذا الأثر في التنبّه
إلى مخاطر الأجنبية على اللغة العربية، دفع مَجْمَع اللغة العربية الأردني إلى
اقتراح مشروع سُمِّي "بقانون اللغة العربية" (1981) ليصار إلى تطبيقه في
شتى مناشط الحياة في الأردن، ويَحْسن أن نذكر بعض ما تضمنه هذا القانون ليُضَم إلى
جملة التوصيات التي تتبناها هذه الدراسة.
أضف تعليق