جمهرة البلاغة
جمهرة البلاغة
الدكتور أحمد مطلوب
عضو المجمع العلمي
العراقي وأمينه العام - بغداد
(1)
عُني القدماء عناية فائقة بالبلاغة العربية، وكانت تلك العناية مبكرة، ظهرت بذورُها الأولى في كتاب سيبويه، ومجاز القرآن لأبي عبيدة، ومعاني القرآن للفراء. وأعطت تلك البذور نباتاً طيباً، ظهر في قواعد الشعر لثعلب، والبديع لابن المعتز الذي يُعَدّ رائداً في التأليف البلاغي. وتوالى التأليفُ في البلاغة، وظهرت كتب كثيرة منها: نقد الشعر لقدامة بن جعفر، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، والعمدة لابن رشيق، وأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، والجامع الكبير لضياء الدين بن الأثير، والبرهان، والتبيان لابن الزَّملكاني، ونهاية الإيجاز لفخر الدين الرازي، وبديع القرآن وتحرير التحبير للمصري.
وكانت
هذه الكتبُ تتخذ عدة طرق في التصنيف، وكانت المَسْحَةُ الأدبيةُ تلوِّنها بألوان
زاهية، وإشراقة ناصعة، تحبِّبُ البلاغة، وتجعلًُ الدارسين يُقْدِمون عليها.
ولم
تبق البلاغة حرة في التَّقسيم والعرض، فقد ظهر في القرن السادس للهجرة في خوارزم
عالم هو السكاكي المتوفى سنة (626هـ) للهجرة الذي ألف كتاب "مفتاح العلوم"
وخَصَّ القسم الثالث منه بالبلاغة التي قَسَّمها إلى علم المعاني، وعلم البيان،
ووجوه يُؤتى بها لتحسين الكلام، وهي التي أطلق عليها بدرُ الدين بن مالك (686هـ) في كتابه
"المصباح" اسم "البديع".
وسيطر
المنهجُ السكاكيُّ على دراسة البلاغة، وأول من تأثر به بدر الدين بن مالك، ثم تلاه
الخطيب القزويني (-739هـ) في كتابيه "التلخيص" و"الإيضاح".
وتوالت الشروح والتلخيصات، وكان سعد الدين التفتازاني، والسبكي، وابن يعقوب
المغربي، وغيرهم من أعلامها.
وحينما
أطلّ القرنُ العشرونَ الميلادي نَهَدَ بعض المؤلفين ووضعوا كتباً بلاغية لم تخرج
عما اختطَّه السكاكيّ في "مفتاح العلوم". وحاول المتأخرون أن يضعوا
منهجاً جديداًَ ولكن لم تتضح السبيل، ولم يأتوا بما يجعل البلاغة قريبةً إلى
النفوس على الرغم مما قام به المرحوم أمين الخولي صاحب "فن القول" من
رسم منهج جديد لم يطبق حتى اليوم.
وكثرت
الدراساتُ، وتنوَّعت الاجتهاداتُ حتى إذا وصلت الأسلوبيةُ بمعناها الغربيّ تمسك
بها بعضهم، ودعا إلى هجر البلاغة العربية والأخذ بالأسلوبية التي هي الوريث الشرعي
للبلاغة كما يقول الدكتور عبد السلام المسدي ومَنْ شايعه من المبهورين الذين
انتهوا إلى تقسيم كتبهم الأسلوبية إلى مستويات ثلاثة هي: المستوى الصوتيّ، والمستوى التركيبيّ، والمستوى
الدلاليّ، وما هذا إلا التقسيم الثلاثي للبلاغة العربية التي حصرها السكاكي في
ثلاثة علوم هي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
ولايزال
الباحثون والدارسون يُجرِّبون، ولا يزال بعضهم يُنادي بالبلاغة الجديدة التي نادى
بها الغربيون في الثلث الأخير من القرن العشرين، ولم تثمر تلك المناداة حتى اليوم
بما يطمئن إليه الدرسُ البلاغيّ وتهشّ له النفوس.
ولم
يقف أمر البلاغة عند هذا الحد، بل أسهم قوم في البحث خدمةً للقرآن الكريم في غير
أرض العرب، ومنهم عبد الحميد الفراهي الذي دعا إلى الأخذ ببلاغة العرب لا بلاغة
العجم، في كتابه "جمهرة البلاغة" الذي طبع سنة 1340هـ في (أعظم كره)
بالهند ونفدت نسخه قبل أن يصل إلى البلاد العربية.
ومؤلف
الكتاب هو عبد الحميد بن عبد الكريم بن قربان بن قنبر بن تاج علي حميد الدين أبو
أحمد الأنصاري الفراهي نسبة إلى القرية التي وُلِدَ فيها (فراه)، وكانت أسرته قد
هاجرت من المدينة المنورة إلى أفغانستان، وأقامت زمناً في (فراه) فلما نزحت إلى
الهند، ونزلت في هذه القرية، سميت باسم
موطنها، وتحرفت على ألسنة الناس إلى (فريها).
ولد
صباح الأربعاء في السادس من جمادى الآخرة سنة (1280هـ) في أسرة عُدَّت من أعيان
المنطقة ووجهائها، وتلقى التعليم الإسلامي بقراءة القرآن الكريم، ثم عكف على تعلم
اللغة العربية وهو ابن أربع عشرة سنة وبرَّزَ فيها، حتى إذا ما أتقنها توجه نحو
اللغة الإنكليزية، وهو ابن عشرين سنة والتحق بعد إكماله الثانوية بكلية (عليكره).
واعتنى في أثناءِ دراسته بالفلسفة الحديثة والعلوم العصرية وتولّى بعد إكمال
دراسته تدريس اللغتين: العربية والفارسية في مدرسة الإسلام بمدينة كراجي، وكلية
عليكره، وجامعة الله آباد، واختارته حكومة حيدر آباد عميداً لدار العلوم، وكان أحد
المؤسسين للجامعة العثمانية بحيدر آباد، وهو الذي اقترح أن يكون تدريس العلوم
الشرعية باللغة العربية، والعلوم العصرية بالأردية، فوافق المسؤولون على المقترح
الثاني وأهملوا المقترح الأول.
مكث في حيدر آباد إلى سنة 1337 هـ ثم
استقال من منصبه، وعاد إلى وطنه، وهو بين خمسين وستين من عمره، وتولى إدارة مدرسة
إصلاح المسلمين في بلدة (سراي مير)؛ وظل عاكفاً على التدريس والتأليف حتى توفاه
الله وهو يتلو القرآن الكريم في التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1349هـ، على إِثر
عملية جراحية أجراها طبيبه الخاص في مدينة (مثورا) ودُفن فيها، تاركاً عدة كتب
إسلامية تشهد له بالعلم الواسع، والثقافة الأصيلة، والإحاطة بالتراث العربي
والإسلامي.
وقد
أثنى العلماء على أخلاقه الإسلامية، ودفاعه عن الإسلام، وردّ شبهات المستشرقين،
وتحدثوا عن زهده بعد أن نذر نفسه لخدمة الإسلام، ولغة القرآن الكريم؛ وقد عَبَّرت
إحدى رباعياته عن ذلك فقال مُحذِّراً نفسه:" الجاهل مشغول بالبحث عن لذيذ
المأكل، والعاقل مصروف همه إلى نيل الصيت والسمعة، أما أنت أيها الفراهي فاجْتَنب
الاثنين، فيوشك أن ترى كليهما قد نشبت حلوقهما في الحبالة"( تنظر ترجمة حياته
في كتاب مفردات القرآن للفراهي، تأليف الدكتور محمد أجمل محمد أيوب الإصلاحي-
السعودية).
(2)
ترك
الفراهي عدة كتب في علوم القرآن وتفْسيره، وكان منها "جمهرة البلاغة"
الذي قال عنه الإصلاحي:"جمهرة البلاغة الذي نقض فيه الأساس الذي يقوم عليه فن
البلاغة عند ارساطاليس، وهو نظرية المحاكاة. ويرى الفراهي أنَّ فن البلاغة العربية
تأثّرَ بهذه النظرية فجار عن قصد السبيل. وانتقد في ذلك الإمام عبد القاهر
الجرجاني مع اعترافه بجلالته، ودعا إلى تأسيس فن البلاغة على أسس منبثقة من القرآن
الكريم وكلام العرب الأَقحاح" (كتابه السابق ص 26).
وقد
أُعجب بهذا الكتاب شبلي النعماني ولخَّصَ بعض مباحثه المهمة ولا سيما نظرية
المحاكاة، ونشرها في (مجلة الندوة) التي كان يصدرها باللغة الأردية. وقد نشر
الكتاب بعد وفاة مؤلِّفه، قال الإصلاحي:"ونقد قبل أن يصل إلى البلاد العربية
ليأخذ مكانه من البحث والنقاش، فهو فريد في تأريخ البلاغة العربية" (كتابه ص
26).
إِن
كتاب "جمهرة البلاغة" فريد حقاً؛ لأن مؤلفه بناه على غير ما بُنيت كتب
البلاغة العربية إذ جعله قسمين:
الأول:
القسم العمومي.
الثاني:
القسم الخصوصي.
وألحق
بهما مباحث متفرقة، لما ندّ عن هذين القسمين.
بدأ
الفراهي كتابه بمقدمة موجزة قال فيها:" سبحان الذي فَضَّلَ بني آدم على سائر
الخلائق فجعله الحيَّ الناطق، كما فَضَّل محمداً على سائر بني آدم فأعطاه أبلغ
الكلم. فلنشكرن ربنا الرحمن بداية على أنْ علّمنا البيان ونهاية على أن نَزَّلَ
علينا القرآن. ولا شكر لمن جهل بالنعمة فضيَّعها أو حَوّلها فأخطأ موضعها، فوجب
علينا أن نعرف أسرار البيان وفضائله كما وجب علينا أن نعرف إعجاز القرآن ودلائله
لنستكمل من فطرتنا عنصرها، ونستقي من عيون الوحي كوثرها، وها أنا أشرع في
المقصود". (جمهرة البلاغة ص1).
وانطلق
الفراهي بعد هذه المقدمة ليقول"إنَّ البيان كالظل والأثر للنطق الذي هو
مقَوِّم للإنسان، كما أَن النطق ظل من الوحي الأعلى وكلمة الله العليا. فالبحث عن
أوليات علم البيان يجلبنا إلى الحكمة الإلهية" (ص1) وهذا فهم جديد للبيان
أراد به المؤلف أنْ يُبيِّن الفرق بين "تعاطينا العلوم لا سيما هذا العلم
وبين تعرض الأمم الأخر له، فإنهم نظروا إليه من نظر دني دنياوي فنالتهم غوائلها،
وأبعدهم عن الحق باطلها، فتراكمت عليهم ظلمات بعضها فوق بعض". ولكن كيف يُعرف
الكلام الحسن؟ يرى المؤلف أن في ذلك صعوبة على الرغم من أنَّ الناس اتفقوا على "أَنَّ
في الكلام حسناً وقبيحاً، وعالياً وسافلاً" ولكنهم "اختلفوا على تعيين
موضع الحسن وتفضيل بعض الكلام على بعض، حتى أن أبصر الناس بالنقد يخالف من هو ليس
دونه، وهكذا العادة في كل لذيذ مرغوب؛ لأن أكثر الأشياء المستحسنة غير بسيطة،
وأسباب الحسن فيه غير واحد" (ص2) ومن هنا تختلف الأحكام النقدية (فمع أَنَّ
للكلام حسناً وعلواً تذعن لها الأذواق صعب سبيل النقد والتمييز، وأبهمت معرفة كنه
الحسن وسر البلاغة حتى أنك ترى شعراً أو نثراً يروق أكثر الناقدين وعامة أهل
الذوق، ولكن إذا سألتهم عن وجه الحسن اختلفت كلمتهم كما إذا سمعوا صوتاً أو شموا
طيباً فسألتهم من أي جهة جاءكم هذا اختلفوا في جوابهم" (ص3).
وهذا ما كان السابقون يقولون به كعبد
القاهر الجرجاني الذي ذهب إلى أَنَّ إدراك البلاغة يكون بالذوق وإحساس النفس، وهذا
صعب المنال يقول:"فليس الداء فيه بالهيِّن، ولا هو بحيث إذا رُمْتَ العلاجَ منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مُسْعفاً
والسعي منجحاً، لأن المزايا التي تحتاج أَنْ تعلمهم مكانها، وتصور لهم شأنها أمور
خفية ومعانٍ روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها، وتحدث له علماً بها حتى
يكون مُهَيئاً لإدراكها، وتكون له طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما
في نفسه إِحساساً" (دلائل الإِعجاز ص 547- طبعة محمود محمد شاكر). وأقرب من
هذا إلى ما ذهب إليه الفراهي قول السكاكي وهو يتكلم على إعجاز القرآن الكريم.
يقول:" واعلم أَنّ شأن الإعجاز عجيب يُدْرَك ولا يمكن وصفُه كاستقامة الوزن
تُدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا، وطريق
اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين –المعاني والبيان" (مفتاح العلوم ص196-
طبعة 1937م).
وانتقد الفراهي البلاغيين الذين ذهبوا
مذهب العجم، ولو أَنَّهم "استقصوا كلام العرب واقتفوا آثار المحاسن فيه،
وقيدوها بالحدود، ونظموها في ترتيب حتى يصير لهم ميزان ومحك لمعرفة محاسن الكلام،
ثم نظروا في براعة القرآن ونظمه المعجز لكانوا أقرب إلى معرفته – أي إعجاز القرآن-
ولكنهم لم يأخذوا من العرب ولا من كلامهم فَإنَّهْم أثرت فيهم علوم العجم كما
خالطتهم سجاياهم إلا الأولين منهم كالجاحظ فإِنّه لا يبعد عن سنن العرب كبعد صاحب
دلائل الإعجاز، ولم يبعد هذا إلا لقلة ممارسته بكلام العرب الخلص. فلو تيسر له ذلك
عرف منزلتهم في هذه الصناعة واعترف بفضِلهم على المولدين وقال بقول الجاحظ:"
لم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأَقحاح ألفاظاً منحولة، ولا معاني مدخولة،
ولا طبعاً ردياً، ولا قولاً مستكرهاً، وأكثر ما نجد ذلك في خطب المولدين البلديين
المتكلفين ومن أهل الصنعة المتأدبين، وسواء كان ذلك على جهة الارتجال والاقتضاب،
أو كان من نتاج التحيز والتفكر". فلما تركوا منهج كلام العرب صار أهم شيء
عندهم البديع ومطمح نظرهم التشبيه، وعند الأول أولهما منكر، والثاني غير مهم
لذاته" (ص3). وهذا إسراف في الحكم على بلاغة عبد القاهر الجرجاني التي لم تكن
أعجمية كما قال الفراهي، وإنما هي قرآنية، فضلاً عن أَنَّ عبد القاهر لم يكن
جاهلاً بكلام العرب نحواً وأسلوباً، وهو النحوي الذي ترك كثيراً من الكتب في بلاغة
القرآن، والنحو، والصرف والعروض وغيرها (تنظر كتبه في عبد القاهر الجرجاني- بلاغته
ونقده للدكتور أحمد مطلوب ص 25- 47).
هذا موقفه مما سماه (بلاغة العجم) فما
موقفه من بلاغة العرب؟ يقول:"
فاعلم أنه ليس أَنَّ العرب أعطوا البلاغة، ولم يعطوا تمييزاً بين محاسن الكلام
ومساويه، وانتباهاً لمواضع الجودة والرداءة فيه، فإنّهمْ كانوا يُباهون ببراعة
الكلام، ويحكّمون بينهم مَنْ كان أبصرهم بنقده" ثم يقول "إنَّ سبيلهم في
نقد الكلام لم يكن كسبيل صاحب (أسرار البلاغة) وهو القدوة للذين جاءوا من بعده
فاتَّبعوا خطواته فكان سبيله سداً بينهم وبين العرب. فلو التزموا كلام العرب ولم
يلتفتوا إلى أصول مَهّدها المبعدون، لكان خيراً لهم، وكانوا أقرب إلى معرفة إعجاز
القرآن من طريق الذوق، وإن لم يكونوا من طريق الصناعة" (ص4).
وجرّه هذا إلى نقد نظرية المحاكاة التي
نادى بها أرسطو، وقال:" فلو قال: إنّ الشعر بل كل كلام ونغم جنسه الأعلى
تصوير لكان أقرب، إذ ليس بين المحاكاة والتصوير إلا فرق يسير، ولكنه أبعده عن
الصواب خطؤه في غاية الشعر ومادته ومبدئه. وكان مثار خطئه كلام قومه واستعمالهم إياه.
ولو بحث عن أمر الشعر على طريق الفلسفة، ونظر فيه من جهة العلل التي ألحَّ على
البحث عنها فيما بعد الطبيعة وردّ فيه على الحكماء الأقدمين لم يَخْفَ عليه الصواب
بعد الاقتراب ولم يلتبس عليه غاية الشعر" (ص4-5). وذلك لأَن أرسطو يزعم مرة
أنها الأثر والإطراب، ويزعم تارة أخرى أنها القصة، ولعل سبب ذلك أَنَّ "كتابه
على الشعر بداية ريعان حكمته" (ص5) ورأى أَن الأَوْلى الصفح عن باطله لولا
أَنَّ العلماء المسلمين حينما أَلَّفوا في البلاغة أذعنوا له فيما مَهَّدَه. ولو
نظر الرجل في كلام العرب لأصاب الحقَّ، ولكنه "نظر في كلام قومه فبنى فن نقد
الشعر حسب ما وجد في أحسن كلامهم" الذي كان الشعر منه قصصاً وحكايات مكذوبة
مثل نظم هومروس وسوفاكليس وغيرهما، فأمعن فيها لاستنباط أصول النقد ومناط المحاسن
"وهذا هو الطريق فإن المحاسن توجد أولاً، ثم أهل النظر يستخرجون منها الأصول"
أي أَنَّ أصول البلاغة والنقد تُستنبط من الكلام الذي يُدرس لا كلام لغة أخرى،
وهذا ما جعل أرسطو يستنبط تلك الأصول لأنه رأى غالب صفة الكلام المستحسن عند
اليونان قصة وحكاية عن الوقائع، ودفعه إلى ذلك أمران:
الأول: أَنّ الإنسان حاكية بالطبع أكثر
من سائر الحيوان، فهذه الصفة أنسب بطبعه، وأحبها إليه.
الثاني: أَنَّ العلم مرغوب بالطبع،
وحكاية الشيء تُخبر عن المحكي عنه، فلذلك هي محبوبة.
ولهذا تَمَسَّكَ أرسطو بالمحاكاة
وتعصَّب لها، ورَدَّ كل امرئ رأى خلافه، ولما كان جل أشعار اليونان "للتلذذ
والتلهي في محافل المسامرة ونادي اللهو بحكايات مضحكة أو مبكية، لم يجد لمحاسن
الأشعار غاية إلا الإطراب فقال: إِن يكن الصدق لا يطرب فينبغي للشاعر أن يزيد أو
ينقص. ولم يكن في هذا الرأي بِدْعا في قومه فإنه ظن كما ظنوا فإن اسم الشاعر عندهم
(المختلق) الذي يصنع الحكايات والقصص لإطراب السامعين" (ص6).
ولما رأى البلاغيون العرب أَنَّ أرسطو
أَسَّسَ الأمر على مهارة الاختلاق "سبق إلى ظن بعضهم أَنَّ أحسن الشعر أكذبه،
وإذ ليس في أشعار العرب من أمر القصة والحكاية إلا التشبيه ظنوا أنّ الغلو في
التشبيه من المحاسن. وكما أن المحاكاة صارت عمود الرجاحة عند أرسطو فكذلك صار التمثيل
والتشبيه الذي يشابه القصة عندهم قطب البلاغة. ثم أنهم وافقوه في عين هذا الرأي
فإنه قال في محاسن الكلام:"إنّ أعلى كمال البليغ أَنْ يكون حاذقاً في استعمال
التشبيه" وقال صاحب (أسرار البلاغة):" كأن جلّ محاسن الكلام إِنْ لم نقل
كلها متفرعة عنها أنواع التشبيه وراجعة إليها". وأدَّى هذا القول إلى أن
"المتكلفين من المولَّدين عكفوا عليه، فغاب عنهم ما كان للعرب من سِحْرِ
الكلام وإِعجازه" ونظروا إلى الاستعارة التي هي مبالغة في التشبيه هذه النظرة
"فغلب على ظنهم أَنَّ الحسن أميل إلى الكذب" (ص7) واستدرك الفراهي قائلاً:"
وإِنّا لا نُنكر محاسن التشبيه وأنواعه، ولكنا نجعله متفرعاًَ عن أصل غير التشبيه،
وأساسه الصدق، خلاف ما سمعت من مذهب أرسطو وأمثاله".
لقد ذهب الفراهي بعيداً في هذا التصور؛
لأَن العرب لم يأخذوا مفهوم التشبيه والاستعارة من نظرية المحاكاة التي قال بها
أرسطو، إِذ هذان الفنان معروفا الأهمية في كلام العرب، ولا سيما التشبيه الذي قال
عنه المبرد:" والتشبيه جارٍ
كثير في الكلام – أعني كلام العرب- حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد"
(الكامل ج3 ص818- طبعة زكي مبارك)، وتكلم
عليه، وأشار إلى أنواعه، وإلى ما يحسن منه، وما لا يحسن في عدة مواضع من كتابه (ج2
ص740 وغيرها). ومثل ذلك الاستعارة التي لم يكن مفهومها بعيداً عن مدارك العرب، بل
إن غرابة التَّصور والخيال من محاسن أشعار العرب، ألم يستحسن حسان بن ثابت عبارة
ابنه في التشبيه قبل أن يُؤلف العرب في البلاغة، ويطلعوا على كتابي
"الشعر" و"الخطابة" لأرسطو، فقد رجع عبد الرحمن إلى أبيه حسان
يبكي ويقول:" لسعني طائر" فقال حسان:" صِفْهُ يا بُنيّ"
فقال:"كأنه ملتف في بردي حبرة" وكان قد لَسعَهُ زنبور، فقال حسان:"
قال ابني الشعر وربِّ الكعبة". أليس في هذا ما يدل على بُعْدِ الخيال
والاستعداد لقول الشعر والتصوير؟ فالغلو في التَّصوير مذهب معروف في الشعر العربي
القديم، وإن التصوير البعيد ليس غريباً، وهو ليس كذباً، وإنْ كان بعضهم يميل إلى
عرض الحقيقة كما هي، وقال إِنَّ "أَحْسَنَ الشعر أصدقه".
ويعود الفراهي إلى المحاكاة ويرجِعُها
إلى النطق لأَن "الإنسان في فطرته ناطِق" ولذلك "فإن النطق هو
الفصل المقوِّم له لا المحاكاة كما زعم أرسطو" (ص8) وكان قد قال في أول
الكتاب :" إِنَّ البيان كالظل والأَثر للنطق الذي هو مُقوِّم
للإنسان"(ص1) والنطق "مُودَع في فطرته – أي الطفل- وكل قوة تلتمس
الوسيلة للعمل". ويمضي الفراهي في إيضاح ذلك مؤكداً فهمه ورأيه في المحاكاة،
وربط البيان بالنطق الذي هو "زهرة تخرج من كمال الفَهْم وصلاح البنية"
(ص9) ولو "لم يكن النطق في الإنسان لما استطاع المحاكاة"، وقوة النطق هي
العلة الفاعلية وأما "المعاني ثم الألفاظ فهما المادة، فالنطق يأخذ المعاني
ويُلبسها ألفاظاً سواء مما ابتدعها، أو مما تعلمها الإنسان بوسيلة المحاكاة".
هذا موقف الفراهي من المحاكاة التي شغلت
أرسطو والفلاسفة المسلمين والمعاصرين، وهو رأي ينبثق من فهمه للكلام الذي لا
يريدُهُ تقليداً أو محاكاة للواقع لئلا يؤخذ الطيب والخبيث، وهو ما لا يؤمن به من
يربط الكلام عامة والشعر خاصة بالأخلاق. ويتضح هذا في قوله:" اعلم أَنَّ حسن
البلاغ وكماله يحتوي حسن ما يبلغه من الصُّوَر والمعاني وهو أولى باللحاظ فلا
نقيمُ وزناً لكلام أبلغ بكمال الصحة شيئاً خبيثاً من نفس متدنية، فالخَرَسُ أحسن
من هذا النطق. وهذا رأي يستدعي بياناً لصحته، فإن أبا جعفر قدامة صاحب (نقد الشعر)
وهو أول مَنْ جعله فناً من العلوم قال قولاً يضل به الغافل وإن كان له وجه صحيح،
فقال:" ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يُزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة
النجارة في الخشب مثلاً رداءته في ذاته" وقال أيضاً: إِنَّ الشاعر ليس يوصف
بأَنْ يكون صادقاً، بل إنما يُراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني كائناً ما كان
أن يجيده في وقته الحاضر" فلم يرد من الشعر إلا شيئاً نازلاً وصناعة دنية...
ونحن نلتمس محاسن الكلام كما يليق به وكما وضعته الفطرة الإلهية، ويقتضيه كمال قوة
النطق، ويستعمله الشاعر أو الخطيب الجديد بهذا الاسم" (ص9-10).
والشعر عند الفراهي قسم من أقسام الكلام
"والكلام ليس اسماً للجرس المحض، بل هو شيء مركَّب من المعنى والصوت، والشيء
المركب يحكم بحسنه لحاظاً إلى أصل الأمر فيه" أَي أنَّ النظرة يجب أن تكون
كلية، وأنْ يُحكم على الكلام مجموعاً، ولا يكون حسناً إذا اختلَّ جانب من جوانبه
أو سقط ركن من أركانه، ويضرب مثلاً فيقول:" إنك لا تصف بالملاحظة وجه أعور
أفطس إذا وجت إحدى عينيه مليحة، فكذلك الأمر في حسن الكلام. نعم إنْ شئتَ قلت:
إنَّ وزن هذا الشعر أو صوته حسن، ثم نُؤزّر هذا الرأي بأمر أقرب إلى الكلام من جهة
الإبلاغ، وهو أن الكلام لا يبلغ قلب العاقل إلا أن يكون معناه شريفاً، ولا اعتبار
لتأثُّر الحمقى والأَشرار، فإِنّنا إِنما نُعطي الأشياء أسماءً لحاظاً إلى سلامة
الحال، وإلا لزمك أن تسمي الكلام حسناً وقبيحاً معاً، أو لا تسميه شيئاً. وهذا أمر
يتضح لك كل الاتضاح إذا بحثنا عن أسباب بلوغ المعاني القلوب، فترى أَنَّ الألفاظ
ربما تُصرف عن قواعدها الصحيحة العامة لأجل المعنى الذي يبلغ نفسه بقوة فيه ويجد
الألفاظ حجاباً وثقلاً عليه، كما أن ملكاً جعل نفسه سفيراً. فالبليغ هو المعنى
واللفظ مركبه، فالمعنى أجدر باللحاظ في حسن الكلام. فذلك برهانان ثم نعززهما
بثالث، وهو أََنََّّ العرب لم يحمدوا الكلام إلا لحسن معناه، وليس لهم نزوع إلى
قول أدى الخبث فإنهم يذمونه ويحتقرونه." (ص10).
ويذكر أبياتاً لزهير بن أبي سلمى
ويستحسنها ثم يقول:" فهذا يبين لك أَنَّ حسن الكلام تابع لحسن المعنى، فلا
تسمي الكلام حسناً إلا بعد أن حسن معناه، ولا تترك للكلام فضيلة إلا صحة الأداء،
فإذا أُدّي الكلام من قلب المتكلم أدى حقه، ولكنه مع ذلك غير بليغ إنْ لم يكن
المعنى مما يبلغ القلب. وكثر في كلام العرب ذم الفحش، والخنا، والهجر، والبذاءة
حتى إذا خلط شعرهم بهذي المساوئ صار ساقطاً. ألا ترى كيف أمر الحجر بقتل ابنه امرئ
القيس لقول الشعر، وسَمّاه الناس ضِلِّيلاً؟ وكيف ذموا النابغة لمدحه الملوك.
والعرب تحب مدح الشاكر، وذم الساخط، وتأنف عن مدح المُتذلل" (ص11).
وذكر أَنَّ كلامه هذا ليس بِدْعَا,
واستشهد بكلام للجاحظ الذي جعل مدار البلاغة نور العلم وطهارة القلب, ثم يقال:
"وهل ينشأ الكلام من غيرهما, ويُهتدى للقول الصائب دونهما؟".. واستشهد
ببيت عبيد بن الأبرص:
القائل
القَوْلَ الذي مثله |
يمرعُ
منه البلدُ الماحلُ |
والبيت:
وإِنَّ
أحسنَ بيتٍ أنت قائِلُه |
بيتٌ
يُقال إِذا أنشدته صدقا |
ثم
قال:"وهذان الشاعران ذكرا أمرين:
الأول:
أراد قولاً لا تصلح به أمور الناس فنظر إلى جهة أخلاقية.
والثاني: أراد قولاً يقبله القلب لكونه
حقاً ناصعاً فنظر إلى جهة عقلية وأيد رأيه بالقرآن الكريم، فإن الله تعالى سمى
كلامه بليغاً؛ لأنه يبلغ القلب حيث قال:"وقُلْ لهم في أنفسهم قَوْلاً
بليغاً" (النساء 63) وحيث قال":"فللَّهِ الحُجَّةُ البالغِةُ"
(الأنعام 149) فاتضح أَنَّ أبلغ الكلام أبلغه في القلوب وأهداه إلى العقل.
عرض الفراهي هذا كله ليوضح رأَيه في
المحاكاة، ولينتهي إلى الحكم القاطع الذي لَخَّصه بقوله:"وإذا علمت أَنَّ حسن
الكلام ليس في محض كونه محاكاةً بل في إِبلاغ المعاني من المتكلم، وإنَّ غايته
ليست إطراب السامع بل كونه سفيراً صادقاً للعقل، وإنَّ التلذّذ بها ليس لكون
المحاكاة داخلة في عنصر الإنسان، بل لأن فيه استعمالاً رفع قواه، وأَنْ ليست
المحاكاة بل النطق من خصائص الإنسان، وأَنَّ الصدق يلزم المخبر فإن خالطه الكذب
أحبطه عن درجته، وأَنَّ سوء المعنى يمحو عنه اسم البلاغة، فإذا علمتَ هذه الأمورَ
اتَّضح لك الفرقُ بين مذهب أرسطو ومذهبنا،
واتَّضح لك في هذا الرأي من الائتلاف والمناسبة بين أجزائه مع شرف المكان"
(ص13).
فصحة المعنى، وصدق القول، والنظرة
الخلقية، والنظرة العقلية هي أساس بلاغة الكلام وليست المحاكاة التي نادى بها
أرسطو. أما الكذب الذي في الشعر" فَلَيْسَ إلاَّ لغرض صحة التمثيل، فإنك لا
تبلغ الأمر المبهم فتُعطيه شكلاً وتشخصاً، فإنْ أعياك الخبر أعطيت الشكل من قبل
خيالك، وليس المراد منه إلا التصوير، وهذا هو المطلوب من الأمثال وحكايات
العجماوات، وهو أخو التشبيه" وأما "كَذب المبالغة في التشبيه وغير
التشبيه فتعلم أَنَّ الشاعر لا يُخبر إِلاّ عن نفسه" ثم قال:" فإن كان
كذب المبالغة غير متجاوز بهذا الحد أي إحساس النفس فهي عين الصدق. كان فمن لم يعلم
هذا الأمر لم يفرق بين الإحساس والافتراء، فظن الكذب من أجزاء الشعر، والشعر ليس
بناؤه إِلاَّ على الصدق"(ص13).
وفَرَّق بين الشعر والخطابة، وذكر قول
أرسطو وهو أَنَّ الشعر حكاية عن أفعال الناس معاليها ومخازيها، والفراهي لا يفرق
بينهما من هذه الجهة؛ لأن الشعر والخطابة شريكان في البلاغة، وأنه لا يفرق بين
الشعر وغير الشعر في الوزن والقافية فحسب، بل للشعر أوصاف أخر، كما أن الخطيب ليس
كل مَنْ قال:"أما بعد". والفرق بينهما أًنَّ الشاعر يشعر بأمر فيهتاج
للقول فيقول، وليس هيجانه للقول إِلاّ لأِنَّه أكثر الناس شعوراً، أي إحساساً
نفسانياً، وهذا الشعور يعمل فيه فينبه متخيله، ونطقه، وغناءه، فتيقظ فيه هذه
القوى، ويدبّ الإحساس في جميع مشاعره، فيفيض منه الكلام.
أما الخطيب فهو ليس بأقلَّ من الشاعر
شعوراً، ولكنه فارَقَ الشاعر في أَنَّه غالب على شعوره، فليس حاله كالمصدور، ولكنه
قاهر على نفسه ومنغمس في المخاطبين، فهمّه التأثير في غيره، كما أَنَّ الشاعر لا
همَّ له إلاَّ الانقياد لقوى تعمل فيه، فالخطيب لا يُفارق الشاعر في الهيجان ولا
في قلة الشعور، ولكنه بزيادة صفة عالية استحق هذا الاسم، فالشاعر ملتفت إلى الماضي
والخطيب ينظر إلى المستقبل. فالخطيب أرفع منزلة لغرضه الأعلى، وأقوى عقلاً، وأشد
قوة، وأذكى نفساً، كما أن الشاعر أغنى طبعاً، وأرق فطرة، ولذلك وصفت العرب الخطبة
بالحكمة والبيان والفصل، ووصفت الشعر بالسحر.
هذا فضلاً عن أن الشعر يمتاز بالوزن،
إذْ إِنَّ منه ما ينبعث من نبع الروح، أشبه بالنفس في الاشتعال، وهذا هو الشعر
الشاعر، وليس كل كلام زيّنهُ المجاز والتشبيه، لأَنَّ مثل ذلك يحفل به الكلام
المنثور. إِنَّ الشاعر "يتأثر بأمر فيهيج فيه الوزن والنغمة والرقص، فما من
شاعر إِلاّ فيه عرق من هذه الانبعاثات" وقد سلك الفراهي هذه –أي العروض
والنغمة والرقص- في سلك واحد لأَنها في الحقيقة كذلك، وهذا مما "خفي كُنْهُهُ
على أرسطو فإنه لم يكن شاعراً فلم يَدْرِ ما لم يذق، فزعم كما زعم في أمر الشعر
أَنَّ النغمة والرقص محاكاة؛ لأن فيهما إظهاراً لواردات النفس والأحوال والأعمال.
وإِنما قال ذلك لأِنَّه رأى المغنين والرقاصة يظهرون بالغناء والرقص (من جهة أثر
الأول وإشارات الثاني) أحوال النفس وأفعال الناس. فمر بأمرٍ لو تأمل فيه أو كان له
من الوجدان كوجدان الشاعر، علم أَنَّ هذه الأمور لم تُستعمل للمحاكاة وإظهار ما
تظهره إلاّ لأَنها نتائج من أحوال النفس، مثلاً التأوه لا يُظهر الحزن، والتَّبسم
لا يُظهر المَسرَّة إلاّ لأَن النفس تفهم هذه الإشارات" (ص16). وهذه الإشارات
فطرية مثل أن النطق فطري ولا علاقة لها بالمحاكاة.
ولو لم يكن الفراهي شاعراً ما استطاع
أَنْ يتكلم على الشعر هذا الكلام الذي لا يُدركه إلا الشعراء، أو الذين وُهِبوا
ذوقاً رفيعاً، وإحساساً رقيقاً، كالفراهي الذي نظم الشعر وهو في السادسة عشرة من
عمره، وقد عارض في تلك السن قصيدة خاقاني الشرواني الملقب بحسان العجم وهي قصيدة
صعبة الرديف. وطبع ديوان شعره الفارسي عام 1903م، وله ديوان آخر ترجم فيه صحيفة
أمثال سليمان إلى الفارسية، وقد طبع في حياته بحيدر آباد (خردنامه). وديوان باللغة
العربية طبع سنة 1387هـ (ينظر كتاب مفردات القرآن للفراهي ص14، 22، 29).
لقد أهَّلَتْهُ شاعريته لتلمس الفروق
بين الشعر والخطبة، ومكَّنته لغته الإنكليزية من أن يطَّلع على التراث الغربي،
ويؤلف بها رسالة في عقيدة الشفاعة والكفارة ردّ بها آراء بعض علماء النصارى.
(المصدر السابق ص 23).
واستمر الفراهي في عرض آرائه في الكلام،
وفَرَّق بين الشعر والنثر البليغ، وذكر أَنَّ أول من أخطأ في عدم التمييز بين
الشعر والنثر البليغ أرسطو وآخر هو (جان مل). وأرسطو أشنع قولاً فإنّه ظن
"أَن للمحاكاة طرقاً شتى. وفي الكلام وسيلة لمحاكاة ثلاث: وزن، وألفاظ،
ونغمة، فهذه محاكاة فرادى ومثنى وبأجمعها. ثم ظن أن المحاكاة هي الشعر، ومحاكاة
معالي الأمور هي التي تسمى ابوبيه (EPOPEE) القسم الذي اختاره هومروس فقال: إِنَّ
ابوبيه تُحاكى بوسيلة الألفاظ وحدها كمكالمة
سقراط، أو بوسيلة الألفاظ مع النظم كنظم فلان وفلان. ثم قال: إنَّ العادة
علقت الوزن بالشعر، ولكن الذين نظموا كتباً في الطب أوْلى باسم الطبيب منهم باسم
الشاعر. وإنه أصاب فيما قال: إن مجرد الوزن لا يتم به الشعر، ولكن العلة ليست
أَنَّ الوزن ليس من أجزاء الشعر بل لأن الكل لا يوجد بمجرد أن يوجد منه جزء، فجعل
كلام هومروس وسقراط شيئاً واحداً، وزعم علاقة الوزن بالشعر نشأت من العادة. وأما
(جان مل) فقارب الإصابة فيما فهم أنَّ الشعر هيجان، والشاعر يخاطب نفسه، فأمن بهذا
الظن تخليطاً بين الشاعر والخطيب أو الحكيم، فلا يكاد يُعَدّ كلام سقراط من الشعر،
ولكنه أوضح قولاً من أرسطو بأن الوزن أمر زائد على الشعر" (جمهرة البلاغة
ص17-18).
وأعاد الكلام على خصائص الشعر، وقال
إِنَّ "الحركة النفسانية تستولي عليها وتلتمس الخروج من طرق النطق، فإن
الإنسان صفته الغالبة هو النطق... فمن أوتي نطقاً ورقة وغناء يخرج منه الشعر
والترنم وإن زفَّه الأثر ربما رقص. فالشعر لا يتجرّد عن الوزن والنغمة والرقص،
ولكن الوزن يحتمل فيبقى بالكلام، فأما النغمة فلا يحتملها الكلام إلا قليلاً،
والرقص أمر على نهاية الإحساس حتى يخرج المرء عن وقاره، والكلام لا يحتمله، فبقي
من آثار حركات النفس بالكلام قدر ممكن وترك ما لم يُمكنْ ولم يلتزمه، فإن كمال الشيء ليس مما يصحبه في كل حال. ألا ترى
العقل من مقومات الإنسان، ولكن كمال العقل
لا يلتزمه، وكذلك البلاغة كمال النطق، ولكنها لا توجد في كل ناطق، فكذلك
النغمة لا توجد مع كل شاعر، ولكن مع ذلك لا يوجد الشعر خالياً عن النغمة كلَّ
الخلو، فإِنَّا لا نتصور شاعراً لا يترنم، والعرب لا تعرف الشعر بغير الإنشاد،
والوزن طرف من النغمة"
(ص18-19) وانتهى إلى القول:" فمن ظن أَنَّ مكالمة سقراط من جنس الشعر
لم يعرف من كُنْهِ الشعر إلاّ المحاكاة، ومن ظن أَنَّ الوزن ليس من الشعر لم يعرف
من أَصل حقيقة الشعر إلاّ طرفاً واحداً وهو الهيجان المفيض إلى النطق". وهذا
هو الفرق بين الشعر والنثر البليغ، وصلتهما بالمطبوع والمصنوع وما بينهما من
اختلاف. والأصل هو الكلام المطبوع، وأما "المتصنع في أوَّل أمره فهو مخادع،
ومنافق، لا روح في كلامه" (ص20).
وتكلم على طريق البلاغة، وقال:"
إِنَّ الكلام ليس إلا الإبلاغ، ولا يتم ذلك إلاَّ بمطابقته بالأَصل الأول، وبالذي
في خيال المتكلم، وبكونه واضح الدلالة، وصائب الإشارة، وبكونه مُؤثراً حسب حال
المستمع، إِمّا لينا سائغاً أو خشناً دامغاً" (ص21) وأوضح هذه الوجوه، ثم
انتقل إلى طرق التوضيح من جهة استعمال الألفاظ، وقال إِنَّ العرب أطول باعاً في
ذلك إذ إِنَّ "لهم ألفاظاً خاصة تحت كل جنس عام أكثر من سائر اللغات، فيصورون
الشيء ويمثلونه مُشَخَّصاً بين يديك من غير ضم صفة، وفي ذلك لهم طرق كثيرة:
الأول: وجود الأسماء الدالة على أنواع
جنس واحد.
والثاني: وجود الأفعال...
والثالث: من جهة الاشتقاق
للدلالة على التأنيث، والتثنية، وجمع القلة، وعلى الشدة" (ص24).
وتكلم على الصوت وقال إِنَّ له
"دلالة على بعض المعاني لمناسبة بينهما، وما من لغة إلا وفيه آيات على ذلك،
وأما لغة العرب فالدلالة فيها أكثر وأبين من أن ينكره منكر. وأعجب من صاحب (دلائل
الأعجاز) كيف غمض عينه عن هذا الأمر، وردّ على العلماء الذين جعلوا للفظ حظَّاً في
مزية الكلام من جهة صوته" (ص26). وكان ابن جني قد عقد "باب تصاقب
الألفاظ لتصاقب المعاني" و"باب في إحساس الألفاظ أشباه المعاني"
(الخصائص ج2 ص145 وما بعدها)، وتحدث ضياء الدين بن الأثير عن "قوَّة اللفظ
لقوَّة المعنى" (المثل السَّائر ج2
ص60). ولم ينكر عبد القاهر الجرجاني الألفاظ، ولكنه لا يُرْجِعُ إعجاز
القرآن الكريم إليها، يقول:" واعلم أَنا لا نأبى أَنْ تكون مذاقة الحروف
وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلاً فيما يوجب الفضيلة، وأَنْ تكون مما يؤكد أمر
الإعجاز، وإِنما الذي نُنكره ونُفَيِّل رأيَ من يذهب إليه، أَنْ يجعله مُعْجِزاً
به وحده، ويجعله الأصل والعمدة، فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات" (دلائل
الإعجاز ص522).
لقد فصَّل الفراهي القول في هذه
المسألة، ثم عاد إلى عبد القاهر وقال:"والعجب كل العجب كيف غلب الوهم على
صاحب (دلائل الإعجاز) فزعم أَنَّ المتكلم لا يعنيه إلاّ المعنى، ولا هَمَّ له في
الألفاظ من جهة جواهرها، وخالف جمهور العلماء" (جمهرة البلاغة ص31).
وتكلم على الوضاحة من جهة اختيار
المعاني، وقال:" إِنَّ العرب كما أَنَّهم اختاروا للمعاني من الألفاظ
ما يكون أحسن تصويراً لها، فكذلك أَنّهم اختاروا لها من المعاني ما يكون أرفقَ
لتوضيحها وَرَفْعِ إبهامها" (ص32). وذكر أمثلة شعرية كثيرة إيضاحاً لهذا
الموضوع، وقد أكمل المبحث بالكلام على تصوير الشيء بالتشبيه، والاستعارة،
والتمثيل، والمجاز وقال:"إِنّ التَّصوير غير محصور في التشبيه وله طرق
كثيرة" (ص39) ثم قال:" إِنَّ المثال والتشبيه، والاستعارة، والمجاز تأتي
بما يفصح عن صفة من غير جعل الشيء شيئاً آخر، فلا بُدَّ من مغايرة بين المشبه
والمشبه به، وإلاَّ جعلوهما شيئاً واحداً" (ص40). وأوضح دلالة التشبيه بقوله:" اعلم أَنَّ الباعث الأول على التشبيه هو حرص
الناطق على إظهار ضميره واستعمال قوة النطق بقوة حتى يجعل السامع كأنه قد رأى،
وجرّب فتأثر به بما يزيده وضاحة وأثراً.
والباعث الثاني أن الناطق لا ينطق لمحض
الإظهار ولكن ليؤثر في السامع، ويحركه، ويجلب رغبته أو نفرته إلى محض السمع ليعجب
نفسه والناس بنطقه بالتصوير العجيب الحسن النادر، ويتوسل بذلك إلى أمور أُخَر من
جلب الصيت أو منافع أُخر.
والباعث الثالث أنّه يتوسل بالتشبيه إلى
تقرير، أو تحريض من جهتين مختلفتين:
الأولى: أَنَّ المثل أشبه بأَنْ يكون
كَمِثْله في أمور أُخَر.
والثانية: أَنّ الأمر العقلي أو الدعوى
المجهولة إذا صوّرت محسوسة أسرع الذهن إلى التأثر بها لفطرته بالتأثر للمحسوس
وتعوده بذلك كما ترى الناس يقرأون القصص المكذوبة، ويضحكون، ويبكون، ويفرحون،
ويحزنون بها مع علمهم بكذبها.
وانتهى إلى أَنَّ التشبيه "إيضاح، وإعجاب،
وتقرير، وتأثير (ص 46) وجرَّهُ الكلامُ على التشبيه إلى نقد عبد القاهر
فقال:" إِنَّ المولَّدين زعموا أَنّ الندرة والبعد في التشبيه من محاسنه، وقد
أسهب الجرجاني –رحمه الله- في إثبات ذلك، وجمع التشبيهات الرديئة، وإِنّا نُورد
عليك منها لكي تعمل فيها ذوقك وتبين سخافتها" (ص47). ولم يذكر الأمثلة التي
وصفها بالسخف في المبحث الذي سماه "المذهب الباطل في التشبيه".
وكلام الفراهي باطل، لأَنَّ التشبيهات
التي ذكرها الجرجاني من الروائع، وكان تحليله لها أكثر روعة وبياناً (ينظر أسرار
البلاغة ص 64 وما بعدها).
وأصول البلاغة عند الفراهي: مطابقة
الكلام بالمعنى، والوضوح، ونفي الفضول، وحُسْن الترتيب، والمقابلة، والتشبيه،
والتمثيل من جهة الوضوح، وتنقيح اللفظ من المطابقة، وهذه من الموضوعات التي بحثها
البلاغيون المتقدِّمون. ثم تكلم على الاعتدال، ومطابقة الكلام بالمعنى، وسذاجة الكلام،
والترتيب، والمقابلة، وتمييز المعاني وفَرْق درجاتها، وتنقيح الألفاظ، والإيجاز،
وأُصول الإيجاز والإطناب، والإيجاز والإطناب، وادخار الألفاظ والأساليب، ومنبع
الكلام، وواسطة العقد. وبذلك ينتهي القسم الأول من الكتاب، ويأتي القسم الثاني وهو
"القسم الخصوصي".
(3)
لم يُوَضِّح الفراهي سبب تسمية القسم
الثاني بالخصوصي مع العلم أَنَّه بدأَ بدلالة الفصل، وقد يُظن أَنّه سيتحدث عنه
كما يتحدث البلاغيون، ولكنه نحا منحى أقرب إلى الذوق وروح الأدب. يقول:"إِنْ
سردت الكلام سرداً ذهبت غافلاً عن بعض المعاني، بل ربما بَدَّلت المعنى مثلاً إِنْ
لم تقف على كلمة المرسلين في قوله تعالى:" وجاءَ من أَقْصَى المدينةِ رَجُلٌ
يَسْعَى، قال: يا قومِ اتَّبِعوا المُرسَلينَ، اتَّبِعوا مَنْ لا يَسْأَلكم أَجْرا
وهُمْ مُهْتَدون" (ياسين
20-21) غفلت عن قوة الدليل، وأكدت على الأمر كأنك قلت: اتَّبِعوا اتَّبِعوا، فهذا
مع الغفلة يرد المعنى من الأمرين إلى أمر واحد" (جمهرة البلاغة ص62).
لم يتحدث الفراهي في هذا المبحث عن
الفصل ومواقعه، وإنما ذكر الآيتين الكريمتين اللتين وقع الفصل بينهما حينما أعاد –
سبحانه وتعالى- الفصل (اتَّبِعوا). والجديد في مبحث الفصل والوصل أَنَّ الفراهي
ربطه بالخيال، يقول:" ثم الفصل يجعل الخيال جِسْرَاً بين معنيين، فإنْ
وصلتهما لم يكن للخيال سبيل بينهما" (ص62).
وعقد مبحثاً بعنوان "حظ
السامع" (ص63) وهو رعاية جانب السامع، ومن هذا اللون: الاستفهام لينتبه
السامع، والسكوت ليستريح، وبعض الحذف ليصير السامع متكلماً في نفسه فيعمل عقله،
ومنبهات الرغبة والنفرة، والالتفات لينتبه بما أحس من تجديد، والتمثيل ليشاهد
محسوساً، فينتبه من رقدته، وكل تبدل من الحركات، والالتفات وهيجان الضحك والحزن.
فهذه مع فوائده الأُخَر أسباب لانتباه السامع. وتعرض لمباحث الحذف ومواقعه، وإدراج
الدليل، والترتيب في النسق، والمقابلة، والاستثناء، وانتهاز الفرصة، والمجاز،
والكناية، والتشبيه، ودلالة المجاز في الأزمنة، ولسان الغيب، والإشارة والتَّعريض.
وهذه من فنون البلاغة التي وجدت سبيلها إلى التأليف، وإن جاء بعضها متأخراً في
مسيرة البلاغة العربية.
وختم الكتاب بمباحث متفرقة هي: صرف
الكلام عن سنته، والجملة المعترضة، ووجوه الخطأ في التمييز بين حسن الكلام وقبيحه،
وروح البلاغة وسرها، وكمال البلاغة والإعجاز، ومناط كلام العرب، وأخلاق العرب (قوى
العرب العقلية والكلامية) وارتجال العرب، وصوت الخطب، ومذهب العرب في نقد الكلام،
وباب من التمرين في النقد، وباب نقد الكلام، والفواصل والقوافي، وبعض هذا ما لم
تبحثه البلاغة العربية.
هذه جولة في كتاب فريد من نوعه أَلَّفه
مسلم في المشرق الإسلامي، ولم يصل إلى البلاد العربية ليكون صورة من صور الدرس
البلاغي في القرن العشرين للميلاد.
وبعد: فما خصائص هذا الكتاب الفريد
وأهميته:
تبدو في كتاب "جمهرة البلاغة"
نزعة الفراهي واتجاهاته واضحة كل الوضوح، وتتمثل في:
1-
الاعتزاز بالعرب
لأَنَّهم من أذكى الأمم كما يرى.
2-
الاهتمام باللغة
العربية ذات الخصائص التي تميزها عن اللغات الأخرى ولا سيما لغة اليونان التي
استقى منها أرسطوطاليس مفهوم الشعر والمحاكاة.
3-
تمسكه ببلاغة العرب
والعزوف عن بلاغة العجم.
4-
العناية بالأسلوب
العربي البليغ.
5-
الاطلاع على أهم كتب
البلاغة العربية، وعلى كتب أرسطوطاليس، والشعر العربي.
وأهم
ما تجلى في الكتاب:
1-
تقسيم مباحث البلاغة
إلى قسمين: القسم العمومي والقسم الخصوصي، وهو تقسيم جديد لم تألفه البلاغة
العربية في تأريخها الطويل.
2-
ربط البلاغة بالنقد،
واتخاذها مقياساً في الأحكام النقدية.
3-
وضوح النزعة الأدبية
في العرض والتحليل.
4-
إبداء الآراء الخاصة
في القضايا المختلفة، ومن ذلك: نقض نظرية المحاكاة لأرسطو، ونقد عبد القاهر
الجرجاني، والتمييز بين بلاغة العرب وبلاغة العجم، والفرق بين الشعر والخطابة،
وغير ذلك من الآراء المبثوثة في مباحث الكتاب.
5-
إلحاق بعض المباحث
العامة المتصلة بالنقد.
6-
وضوح أسلوب الكتاب في
العرض والتحليل.
ومن
هنا تأتي أهمية الكتاب، وتأمّلُ ما ورد فيه من مباحث وآراء، يَرفد الدرس البلاغي
والنقدي، ويُضيف ما فيه النفع وإنارة السبيل يوم تلبس البلاغة العربية ثوبها
الجديد.
أضف تعليق