إعلان علوي

آخر الاخبار

الجرائم البنكية الماسة بالإقتصاد الوطني.

الجرائم البنكية الماسة بالإقتصاد الوطني.

 

تعد الجرائم البنكية الإقتصادية من أهم المشاكل الإجتماعية التي تصيب المجتمع على الإطلاق ما دام في النفس البشرية نزوع إلى الكسب والإستفادة المادية وتتفاوت هذه المشكلة تبعا للنظام الإقتصادي من حيث نموه وضموره، وقد حاولت التشريعات والفقهاء في شتى العصور على إختلاف البيئات أن يجدوا حلا لهذه المشكلة للحد منها[1]، وذلك بإصدار نصوص زجرية للحد من ظاهرة الإجرام الإقتصادي البنكي، والتي أصبحت تشكل خطورة كبيرة إما على صحة المجتمع أو على الإقتصاد الوطني.

إن التطورات التقنية والقانونية التي تعرفها المؤسسات المالية إن على المستوى الوطني أو على مستوى الإرتباطات المالية والإقتصادية الدولية المذهلة جدا، كما أن ضخامة رؤوس أموالها ومدى تحكمه في توجه الإقتصادات العالمية[2]، وإتساع نمو المصارف المتعددة الجنسية ساهم في إزدياد نمو التجارة العالمية، فضلا عما أصبح القطاع البنكي الخاص يلعبه من دور رائد في النسيج الإقتصادي الدولي بحكم توسيع حقل المؤسسات البنكية وتنوع عملياتها تجاه الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، مما تولد عنه مفاهيم جديدة معقدة تماشيا مع ماهو متعارف عليه دوليا من نظم ساهمت في تطويرها أجهزة المعلوميات الحديثة[3]، وسنتطرق لماهية الجرائم الإقتصادية البنكية ( المطلب الأول)، ثم نبحث جريمة غسيل الأموال «كنموذج» على الجرائم التي يمكن إقترافها عن طريق البنك ( المطلب الثاني).

المطلب الأول:  ماهية الجرائم الإقتصادية البنكية.

إن الجريمة الإقتصادية ظاهرة إجتماعية، عرفت مع تطور المجتمعات والحضارات البشرية، لكن التطورات الإقتصادية التي يشهدها عالمنا المعاصر، جعلت هذه الجريمة تحتل مكانة خطيرة وحساسة.

فمقياس قوة الدولة في العصر الحاضر لم يعد يقتصر على القوة العسكرية، بل إن مكانة الدولة الحديثة يرتبط إيما إرتباط بقوتها ومناعتها الإقتصادية ومدى قدرتها على التحكم في سياستها الإقتصادية، وهكذا إزدادت أهمية القوانين والنصوص الإقتصادية الهادفة إلى حماية الإقتصادات الوطنية، ورغبة منا في وضع الخطوط العريضة لهذا الموضوع سنناقش مفهوم هذه الجريمة ودور القانون الجنائي والقوانين الخاصة في حماية الإقتصاد الوطني ( الفقرة الأولى)، لنتعرف بعد ذلك على الإتجاهات الجنائية بشأن حماية النظام العام الإقتصادي ( الفقرة الثانية).

 
الفقرة الأولى: مفهوم الجريمة الإقتصادية البنكية ودور القانون الجنائي والقوانين الخاصة في حماية الإقتصاد الوطني.
 

تعتبر الجريمة الإقتصادية من السمات الأساسية للدول الرأسمالية، فطبيعة إقتصاديات هذه الدول يشجع على تنامي هذه الجرائم فما هو مفهومها؟ ( أولا)، وكيف حاول القانون الجنائي والقوانين الخاصة حصر ومعاقبة هذه الجرائم؟ ( ثانيا).

أولا: مفهوم الجريمة الإقتصادية البنكية.

يذهب البعض[4] إلى تعريف الجريمة الإقتصادية بأنها " كل عمل أو إمتناع يقع بالمخالفة للقواعد المقررة لتنظيم أو حماية السياسة الإقتصادية إذا نص على تجريمه في قانون العقوبات أو في القوانين الخاصة".

أما البعض الآخر[5] فيرى أن الجريمة الإقتصادية هي « مباشرة نشاط معين، سواء تمثل في تصرف إقتصادي أو سلوك مادي بالمخالفة للتنظيمات والأحكام القانونية الصادرة كوسيلة لتحقيق سياسة الدولة الإقتصادية».

من خلال التعريفات السابقة نلاحظ أن قيام المؤسسة البنكية بأي عمل أو إقناع عن عمل مخالف للمقتضيات القانونية المنظمة للقانون المتعلق بنشاط مؤسسات الإئتمان ومراقبتها[6]، مثل جريمة إمتناع المؤسسة البنكية عن إطلاع بنك المغرب على الوثائق والمستندات الواجب مسكها وأفرد لها عقوبة خاصة تتلائم مع خطورتها في المادة 90 من القانون البنكي لسنة 1993، وذلك بهدف الحفاظ على سمعة السوق البنكية المغربية وإدراكا من المشرع لدور البنوك في الحفاظ على النمو والإستقرار الإقتصادي.

والواقع في الأمر أن متطلبات الأخلاق أدت إلى تطور فكرة الجريمة الإقتصادية بجميع فروعها ومكوناتها وبتوسيع مجالها الجنائي وهذا هو ما يتضح من تعريف الدوائر المجتمعة لمحكمة النقض الفرنسية للجريمة الإقتصادية من أنها « كل ما يتعلق بالإنتاج وتوزيع وإستهلاك وتداول السلع والخدمات، وكذلك ما يتعلق بوسائل الصرف، ويدخل فيها بصفة خاصة وسائل صرف النقود بمختلف أشكالها، والتي تضمن إعتداء مباشر على إقتصاد الدولة حيث تضطلع الدولة بالتوجيه والرقابة ومراعاة للظروف[7]».

إذن الجرائم الإقتصادية هي أفعال تتعارض مع قواعد الإقتصاد بشكل عام والذي يحمي مصالح إقتصادية معينة، فإرتكابها يتضمن عصيانا لأوامر المشرع الذي يستهدف من ورائها تحقيق مصلحة المجتمع، لذا قيل بأن الجريمة الإقتصادية لا تتعارض مع القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع، لأنها من خلق المشرع ومن صنعه، فالعقاب على هذه الجرائم لا يعتمد على أسس فلسفية، أو أخلاقية، أو إقتصادية، كما هو الحال في جرائم السرقة والقتل، وإنما لها طابع خاص يجري وفق ظروف معينة، فما يعد في نظر الشارع جرائم إقتصادية في فترة زمنية معينة، فإنه لا يعد كذلك بعد إنقضاء تلك الفترة المحددة لسريان القانون[8]، ومن ثم يغلب في هذه الجرائم أن تكون جرائم وقتية يهدف المشرع من ورائها حماية أوضاع إقتصادية معينة.

ثانيا: دور القانون الجنائي والقوانين الخاصة في حماية الإقتصاد الوطني.

يلاحظ أن الإتساع الجنائي في نطاق النظام العام الإقتصادي لا يقتصر على المجال التشريعي، بل إن التوسع يمتد ليشمل المجال القضائي أيضا، ومما لا شك فيه أن هناك توسع حقيقي للنظام العام الإقتصادي في القوانين الخاصة ويبدو ذلك جليا في تزاحم القوانين والمراسيم والقرارات واللوائح والدوريات، فقد أدت فترات الأزمات الإقتصادية أو التغيرات السياسية إلى ظهور نصوص جديدة متداخلة، وقد تكون متعارضة مع النصوص السابقة عليها والتي لم تلغ صراحة[9].

وإذا رجعنا إلى النصوص القانونية في التشريع المغربي، نجده غني ومتنوع ومرد ذلك راجع إلى أن النظام الإقتصادي المغربي هو نظام هجين، لأنه رغم أخذه بمبادئ الحرية الإقتصادية كمبدأ عام، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة بل هي مقيدة، وقد كان للأزمات والحروب التي عرفها العالم في القرن العشرين[10]، دورا هاما إضافة إلى التأثير الذي مارسه الفكر الإشتراكي، ومستلزمات بناء الإقتصاد الوطني الحديث.

وهكذا فإن القانون الجنائي المغربي يتضمن بعض الجرائم الإقتصادية كعرقلة المزايدات ( الفصل 292 منه)، والحمل على التوقف عن العمل ( الفصل 288 )منه، كما أصدر المشرع قوانين إقتصادية خاصة تبعا للمرحلة التي إجتازها المجتمع المغربي وما رافقها من ظروف سياسية وإجتماعية وإقتصادية[11].

أما بالنسبة للقوانين الخاصة، ومنها القانون رقم 99- 06 والمتعلق بحرية الأسعار والمنافسة[12] والذي يعاقب القيام أو محاولة القيام برفع أو خفض الأسعار بشكل يتعارض ويهدد حرية المنافسة المشروعة، بالإضافة للقانون المتعلق بنشاط مؤسسات الإئتمان ومراقبتها والذي يجرم في العديد من مواده كل محاولة للتدليس في مواجهة الجمهور ( المادة 97 منه)، ومحاولة إنتحال صفة مؤسسة إئتمان والقيام بأعمالها دون الحصول على الإعتماد ( المادة 80) وتطلب المشرع لقيام هذه الجريمة عنصر الإعتياد، والنصوص الجنائية للشركات والتي ترمي إلى حماية الأغيار والإدخار عن طريق جزر المخالفات المرتكبة من طرف شركات الأسهم بمناسبة التأسيس أو الزيادة في رأس المال، أو الإدارة المالية، وتجارة القيم المنقولة الصادرة عنها، وهناك قوانين أخرى في هذا الصدد لا يمكننا أن ندرجها كلها في هذا العرض نظرا لكترثها، ونظرا لأهمية هذه القوانين فإنه يجب على المشرع ومنعا للإضطراب عند تعديل أحد القوانين الإقتصادية أو إلغائه، على أن ينص عادة في القانون الجديد على إستمرارية العمل بالقرارات التي صدرت إستنادا إلى القانون القديم فيما لا يتعارض مع أحكام القانون الجديد.

ويلاحظ أن للقضاء سلطة واسعة في تفسيرها، ولذلك فإن التفسير القضائي يعد مصدرا قضائيا للنظام العام الإقتصادي، ومن تم فإنه بالرغم من أن النظام العام في قانون العقوبات والقوانين الخاصة يجد مصدره الوحيد في التشريع فإن توسع النظام الإقتصادي إتجه إلى أن أصبح ظاهرة قضائية أو بمعنى آخر أصبح مظهر للسياسة الجنائية[13].

الفقرة الثانية: إتجاهات السياسة الجنائية بشأن حماية النظام العام الإقتصادي.

تحاول جل التشريعات ومنها التشريع المغربي إفراد نظام قانوني خاص لحماية النظام العام الإقتصادي يهدف من وراءه الحفاظ على المنظومة الإقتصادية بصقل قواعد تتلائم وخطورة هذه الجرائم. فما هي أنواع هذه الجرائم؟ ( أولا )، وما هي طبيعتها ( ثانيا ).

أولا: أنواع الجزاءات.

إن الأثر الرادع للعقوبة الجنائية يعد عاملا هاما في مكافحة الجرائم بصفة عامة بما فيها الجرائم الإقتصادية البنكية والجرائم الناجمة عن النمو الإقتصادي، فمن المسلم به أن التهديد بالعقوبة يصرف الكثيرين عن السلوك الإجرامي، كما أن توقيعها يحول دون عودة من وقعت عليه لإرتكابها مرة أخرى، وتزيد فاعلية الأثر الرادع للعقوبة كلما إزدادات يقينية توقيع العقوبة على مرتكب الجريمة وسرعة البت في جريمته وتنفيذ العقوبة عليه.

وسنحاول التعرض هنا لبعض الجزاءات الجنائية لبيان مدى أهميتها في مكافحة الجريمة بصفة عامة، ثم نعرض لدور الجزاءات غير الجنائية وضرورتها إزاء الجرائم الإقتصادية.

فالبنسبة للجزاءات الجنائية فإنها تنقسم بدورها لقسمين أساسيين أولهما وهي عقوبة الحبس والتي لا تزال تعتبر الوسيلة الأولى التي تلجأ إليها النظم الجنائية المعاصرة في محاولاتها للحد من الجريمة، وإذا كا ن لايمكن الإستغناء- حاليا- عن عقوبة الحبس نظرا لأثرها الرادع الذي ينأى بالبعض عن سلوك السبيل الإجرامي، فإنه من المؤكد أن هذه العقوبة متى نفذت بالطريقة السائدة في النظم العقابية التقليدية، فإنها لا تحول في حالات كثيرة من منع من نفذت عليه من العودة مرة أخرى لإرتكاب الجريمة، ومن ناحية أخرى فإن الأثر السيء لهذه العقوبة يبدو من إرتفاع نسبة من ينفذ عليهم لمدة لا تزيد على ستة أشهر، وهي مدة لا تكفي لتحقيق الأثر الإصلاحي للعقوبة، وتزداد المشكلة خطورة إذا علمنا أن عدد هؤلاء ينفذ عليهم بالحبس لمدة أقل من شهر، ومن المؤكد أن العقوبة التي لا تزيد على شهر واحد ليست لها أية فائدة إصلاحية، أما إحتمالات تحقيق أثر رادع لها، فهو أمر مشكوك فيه كثيرا لأن قيمة عقوبة السجن هي في التلويح والتهديد وليس في تنفيذها، وخصوصا إذا كانت متناهية القصر، ولتلافي هذه السلبيات إقترح البعض[14] في عدة مؤتمرات دولية حلولا لهذه المشكلة عن طريق جعل الحد الأدنى لهذه العقوبة لا تقل عن ستة أشهر، وأن تحل عقوبات أو تدابير أخرى محلها.

وثاني تلك العقوبات وهي الغرامة والتي تتمتع بالعديد من المزايا لعل من أهمها أنها لا تصيب الإنسان في جسده ولا تمثل قيدا على حريته ولا تمس شرفه ولا سمعته أو تنال من مكانته الإجتماعية، وهي تجنب المحكوم عليه بها وسط السجون المفسدة، فتحول بينه وبين الإختلاط بنزلائها، وتمكنه من الإستقرار في مزاولة عمله أو مهمته، ومع ذلك فهي عقوبة مؤثرة لأنها تقتطع جزء من الذمة المالية للمحكوم عليه، ولا يمكن أن يعتاد عليها الشخص خلافا لعقوبة الحبس، وهي من أفضل العقوبات التي تقرر إزاء الجرائم التي يدفع إليها الطمع والشجع، لأنها تصيب العامل المباشر الذي أدى إلى إرتكابها، كما أنها تمتاز بأنها عقوبة يمكن الرجوع فيها بسهولة إذا ماتبين حدوث خطأ في توقيعها، ومع هذا فإنه يؤخذ عليها عدة عيوب، منها أنها تتنافى مع مبدأ المساواة أمام الجزاء الجنائي، فأثرها على الثرى جد ضئيل إذا ما قورن بأثرها على الفقير، ولا شك في أن هذا النقد له قدر كبير من الصحة، إلا أن هذا العيب يمكن ملافاته إلى حد بعيد عن طريق الأخذ بالنظم الحديثة للغرامة، فبعض التشريعات تقدر وجوب تناسب الغرامة مع دخل المحكوم عليه، من ذلك ما يقرره قانون العقوبات السويسري على أن القاضي يحدد مبلغ الغرامة مراعيا المركز المالي للمحكوم عليه[15]، وتنص المادتان 24 و 26 من قانون العقوبات الإيطالي على أنه إذا رأى القاضي بسبب ظروف المتهم الإقتصادية أن الغرامة التي حددها القانون غير فعالة ولو حكم بحدها الأقصى فله أن يرفعها إلى ثلاثة أمثالها.

وفيما يتعلق بالدور الذي تلعبه الجزاءات الغير جنائية في الجرائم الإقتصادية والمتمثلة في الجزاءات التأديبية والجزاءات الإدارية.

فالجهة المختصة بتوقيع الجزاءات التأديبية هي النقابات أو الهيئات التي ينتمي إليها مرتكب الجريمة الإقتصادية، ذلك لأن الكثير من الدول تأخذ رأي النقابات في التنظيم الإقتصادي لأن هذا التنظيم متصل بالمصالح التي ترعاها هذه النقابات، وترتيبا على ذلك كان من اللازم أن تفرض النقابة على المنتمين إليها إحترام قواعد هذا التنظيم وأهدافه، فإذا خرج عنها كان من حق النقابة ومن واجبها أن تعاقبه تأديبيا، وتتراوح العقوبة التأديبية التي تفرضها النقابة بين إنذار المخالف أو توقيع غرامة مالية عليه أو حرمانه من مزاولة مهنته مؤقتا أو مؤبدا حسب نوع وحجم وخطورة الفعل المجرم المرتكب.

وبالنسبة للجزاءات الإدارية تتخذها السلطات الإدارية إستنادا إلى سلطتها في التنفيذ المباشر، وتهدف هذه الجزاءات إما لمواجهة إحتمال إرتكاب جريمة إقتصادية أو الإستمرار فيها، كإغلاق مصنع أو محل غير مستوف للشروط القانونية، أو منع شخص من مزاولة مهنة إذا كان هناك إحتمال إقدامه على إرتكاب جريمة، وإما إلى ملافاة وضع لا يتفق مع السياسة الإقتصادية للدولة، وتبرر الجزاءات الإدارية بأن بعض أوجه النشاط الإقتصادي يحتاج لسرعة وحسم في مواجهة ما قد يؤدي إليه من أضرار بالمصالح الإقتصادية للمجتمع[16]، ومن البديهي أن تخضع هذه الجزاءات لرقابة القضاء للحيلولة دون إتخاذها وسيلة للكيد والمساس بحقوق الغير والإضرار به دون مبرر.

ثانيا: طبيعة الجزاءات الجنائية.

حظيت المشاكل التي تثيرها الجزاءات في القانون الجنائي الإقتصادي بإهتمام بالغ في المحافل الدولية والوطنية وتتميز الجزاءات المقررة لمخالفة القوانين الإقتصادية بعدة مميزات منها:

1. قسوة الجزاءات: لا سبيل إلى تحقيق السياسة الإقتصادية إلا إذا دعمت القوانين الإقتصادية بالجزاءات، وأشد هذه الجزاءات هي العقوبات[17].

والواقع في الأمر أن قسوة الجزاءات لا ينتج فحسب من تشدد معدل الجزاءات بل من خلال الأثر المانع للجزاءات التهديدية، ومن خلال ذلك تتحقق صفة الإكراه التي يتسم بها النظام العام الإقتصادي والتخفيف من الصفة الصناعية لكثير من النصوص الجنائية، وقد أدرك المشرع المعاصر أن من حسن السياسة ألا يلجأ إلى العقوبات الشديدة، إذ أن ذلك يضر بفاعليتها، وأن المبالغة في قسوة الجزاءات ينتج من الإجراءات غير المباشرة والتي تكفل فاعلية الجزاء، وفيما يلي أهم تلك الإجراءات:

أ‌-       التضييق من نطاق وسائل التخفيف.

ب‌- عدم تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم.

إن مبدأ عدم رجعية النص الجنائي يطبق على النصوص الجنائية الموضوعية، دون النصوص الشكلية أو المسطرية، والتي تطبقها المحاكم بأثر فوري، أي بمجرد صدورها على جميع الأشخاص الذين يحاكمون أمامها بغض النظر عن تاريخ إرتكابهم للأفعال التي يتابعون عنها. [18]

يسود الفقه والقضاء المقارن[19]، إتجاه نحو إستثناء القوانين الإقتصادية من تطبيعه قاعدة القانون الأصلح للمتهم، والهدف من ذلك أنه تطبيق أحكام القانون بأثر مباشر حتى كان أصلح للمتهم يشكل خطر على السياسة الإقتصادية بالنظر لسرعة تطور القانون الإقتصادي وخصوصا فيما يتعلق بتجديد الأسعار ونسب الفائدة.

ج- الخروج على مبدأ شخصية العقوبة: فالراجح في فقه القانون الجنائي الإقتصادي هو ضرورة توقيع الجزاء ليس فحسب على الشخص الطبيعي، بل والشخص المعنوي كذلك[20]، وإذا طالعنا القانون الجنائي المغربي نجده ينص صراحة على المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، وقررت لها أحكاما خاصة رغم وجود النص العام في الفصل 127 من القانون الجنائي وهي معدودة على رؤوس الأصابع، وأهمها:

* قانون تنظيم الأثمان ومراقبتها وشروط إمساك المنتوجات والبضائع وبيعها.

* مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة.

* قانون زجر الجرائم المخالفة لضوابط الصرف.

2- تعديل وظيفة العقوبة: تعتبر من أهم الآثار الظاهرة للتطورات التي لحقت قانون العقوبات على إثر تطور النظام العام الإقتصادي في القانون الجنائي، فبينما يبدو من المقرر لدى غالبية الفقه الجنائي أن الوظيفة المتميزة للعقوبة يتعين أن تكون إصلاح للمذنب، إلا أن المشرع الإقتصادي تحت تأثير الإهتمام بفاعلية الجزاء إتجه إلى غرض ردع الأفراد لذلك تتجه التشريعات على إختلاف نظمها إلى تشديد العقوبة الإقتصادية، وكما أشرنا إلى ذلك فإنه لا يسمح للقاضي بإستعمال الرأفة المعروفة كوقف التنفيذ ومراعاة الظروف المخففة، فالمجرم في الجريمة الإقتصادية مدفوع بالأنانية لتحقيق ربح غير مشروع يستهين بخطورة فعله بالنسبة للمجتمع فيلزم تخويفه بعقوبة رادعة، والواقع أن إستعمال الشدة في العقاب على الجرائم الإقتصادية للوصول إلى الردع لا يخلو من النقد، لأن التذرع بجزاءات شديدة يفرض وجوبا التقيد بمقتضيات القانون الإقتصادي والتي لا يؤمن الجمهور بلزوم العقاب عليها، لذلك يجب أن تتطور جزاءات القوانين الإقتصادية إلى المرحلة التي يألف الناس مراعاة أحكامها، وذلك عندما يصل الجمهور إلى درجة وعي يكفي لإدراك أهمية إحترام القوانين الإقتصادية، وإلى أن يحين ذلك يجب أن تتوسل التشريعات الإقتصادية في ذلك بإستعمال الشدة.

المطلب الثاني: جريمة غسيل الأموال « نموذجا».

إدراكا منا لمدى خطورة الجرائم التي ترتكب من طرف أو عن طريق البنك، ومدى تشعبها وتشتتها، سنقتصر في عرضنا هذا على دراسة أهم الجرائم البنكية على الإطلاق وهي جريمة غسيل أو تبييض الأموال، والتي تعد بحق من التعبيرات التي تداولت مؤخرا على كافة المستويا العالمية أو المحلية، نظرا لسرعة إنتشارها وخطورة آثارها على إقتصاديات الدول المختلفة، فقد أخذت عمليات غسيل الأموال طابعا مخيفا في السنوات الأخيرة الماضية[21]، وتصاعدت المخاوف من هذه الظاهرة وذلك لإرتباطها الوثيق بأخطر الجرائم وأشدها تدميرا للمجتمعات، وهي جرائم المخدرات والمؤثرات العقلية[22] إلخ....، مما أدى إلى تزايد الإهتمام العالمي بهذه الظاهرة في محاولة للقضاء عليها، وسوف نقسم دراستنا لهذا المطلب إلى مفهوم وأركان جريمة غسيل الأموال ( الفقرة الأولى)، ثم أثرها على الإقتصاد الوطني ( الفقرة الثانية).

 

الفقرة الأولى: مفهوم وأركان جريمة غسيل الأموال.

لدراسة جريمة غسيل الأموال لا بد من التطرق لمفهومها ( أولا )، ثم معرفة الأركان التي تتكونه منها هذه الجريمة ( ثانيا).

أولا: مفهوم جريمة غسيل الأموال.

يقصد بعملية غسيل الأموال، كما هو ظاهر من إسمها، أنها عملية تطهر من خلالها أموال لم يكن بالإمكان التعامل فيها إلا من خلال إضفاء صفة المشروعية عليه، بسبب أنها كانت ناتجة عن عمل غير مشروع، ومخالف لقوانين الإقليم الواقع فيه، ومن أمثلة ذلك الإتجار غير المشروع بالمواد المخدرة والأنشطة الإرهابية، وأنشطة البغاء والدعارة، الإتجار في السلاح والعملات، وتهريب السلع المستوردة إلى الدول دون دفع الرسوم الجمركية المقررة، والدخول الناتجة عن الوظيفة العامة بطريقة غير مشروعة[23] إلخ....، ولا شك أن إضفاء صفة المشروعية هذه يستوجب القيام بعمليات إقتصادية ومالية تهدف إلى تسييل الأموال بصورة مشروعة ومرنة، ولذلك يمكن أن نحدد لعملية غسيل الأموال تعريفين:

1- تعريف إقتصادي: وهي عملية تحويل الأموال نقدية أو عينية من خلال تمويهمصدرها وصولا إلى إظهاره بصورة مشروعة[24].

2- الناحية القانونية: يمكن تعريف غسيل الأموال بأنها عملية يتم من خلالها تحويل أو نقل المال المستمد من جريمة بغرض إخفاء المصدر غير المشروع له وإظهاره بصورة مخالفة للحقيقة، أو مساعدة أي شخص متورط في إرتكاب جريمة للتهرب من النتائج القانونية التي تترتب على سلوكه[25].

كما يمكن تعريفها على ما جاء في المادة الثالثة من إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية التي إعتمدها المؤتمر السادس في جلسته العامة المنعقدة في فيينا في 20 ديسمبر 1988 [26]والتي جرمت الأعمال التي من شأنها تحويل الأموال أو نقلها أو إخفاؤها أو تمويه حقيقتها أو حقيقة مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها أو ملكيتها أو إكتسابها أو حيازتها أو إستخدامها وقت تسليمها، مع العلم بأنها مستمدة من إحدى جرائم المخدرات والإشتراك بمثل هذه الجرائم، وذلك كله بهدف إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال أو مساعدة أي شخص متورط في إرتكاب إحدى هذه الجرائم على الإفلات من العقاب.

وتتم عملية غسيل الأموال عبر البنوك أو القنوات المصرفية- وتمر عادة بثلاثة مراحل متتالية تتمثل فيما يلي:

- المرحلة الأولى: مرحلة الإيداع النقدي، وفي هذه المرحلة يقوم أصحاب الدخول غير المشروعة أو من ينوب عنهم بإيداع أموالهم في أحد البنوك سواء في داخل الدولة أو خارجها.

- المرحلة الثانية: مرحلة التمويه، وفي هذه المرحلة يعمل أصحاب الأموال غير المشروعة على القيام بالعديد من العمليات المصرفية على ودائعهم بغرض التمويه أو إخفاء المصدر غير المشروع للأموال مع تدعيم ذلك بالمستندات التي تساعد على تضليل الجهات الرقابية أو الأمنية، أي أن الهدف من هذه المرحلة هو الفصل بين مصدر الأموال والحصيلة.

- المرحلة الثالثة: مرحلة التكامل أو الإندماج، وفي هذه المرحلة يتم دمج الأموال غير المشروعة في النظام المالي المشروع، أي إضفاء صفة المشروعية عليها وجعلها إحدى عناصر الأموال المشروعة في الدولة، كما لو كانت ناتجة عن أنشطة إقتصادية مشروعة[27].

وأمام إنعدام النص القانوني الجنائي المغربي الخاص الذي يجرم مثل هذه الأعمال، يمكن الرجوع إلى نص الفصلين 571 و 572 من القانون الجنائي والذي يعاقب على جريمة إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة، والتي تصل عقوبتهما القصوى في الجنح إلى خمس سنوات وغرامة، ما لم يكن فعل المشاركة معاقب عليها بعقوبة جنائية، وفي هذه الحالة تطبق على المخفي للأشياء المتحصلة من الجناية نفس العقوبة المطبقة على مرتكب الجريمة، إذا ثبت أنه يعلم وقت الإخفاء والظروف التي إستوجبت ذلك، غير أن عقوبة الإعدام تعوض بالنسبة للمخفى بعقوبة السجن المؤبد[28]، وهنا يمكن تطبيق الركن المادي على هذه الجريمة إذا كان مرتكبها شخص معنوي" بنك على الخصوص" لكن بتغيير نوع العقوبة من العقوبة الحبسية إلى العقوبات المالية والعقوبات الإضافية طبقا لنص الفصل 127 من القانون الجنائي.

ولذلك يجب لإكتمال صورة غسيل الأموال أن تمر من خلال مرحلتين، تشكل كل منهما جريمة: الأولى: ترتكب فيها جريمة يستمد منها مال غير مشروع، والثانية: تتم فيها عملية غسيل الأموال السابقة ذكر مراحلها، بمعنى أننا يجب أن نكون أمام جريمتين بينهما رابط قوي، فالأولى تمهد لقيام الثانية، والثانية تجد محل قيامها في الأولى، مع المحافظة على كامل الإستقلالية بينهما، ولذلك نحن لا نتفق مع من يقول بأن الجريمة الثانية تعتبر جريمة فرعية، بل هي جريمة مستقلة تبعية[29].

ثانيا: أركان جريمة غسيل الأموال.

من المعلوم أن المغرب بصدد تحضير قانون خاص لمكافحة تبييض الأموال، وفي إنتظار ذلك لم نجد بدا من الإستعانة بالتشريعات العربية المقارنة ومنها القانون الإتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة رقم 4 لسنة 2002 المتعلق بمكافحة غسيل الأموال والتي وضحت في المادة 2 منه أركان هذه الجريمة بنصه على أن أركان جريمة غسيل الأموال هي:

1- يعد مرتكبا جريمة غسيل الأموال كل من أتى عمدا أو ساعد في أي من الأفعال التالية بالنسبة للأموال المتحصلة من أية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في البند (2) من هذه المادة:

أ- تحويل المتحصلات أو نقلها أو إيداعها بقصد إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لها؛

ب- إخفاء أو تمويه حقيقة المتحصلات، أو مصدرها، أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها أو ملكيتها؛

ج- إكتساب أو حيازة أو إستخدام تلك المتحصلات.

2- لأغراض هذا القانون تكون الأموال هي المتحصلة من الجرائم الآتية:

أ- المخدرات والمؤثرات العقلية؛

ب- الخطف والقرصنة والإرهاب؛

ج- الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام قانون البيئة؛

د- الإتجار غير المشروع في الأسلحة النارية والذخائر؛

ه- جرائم الرشوة والإختلاس والإضرار بالمال العام؛

و- جرائم الإحتيال وخيانة الأمانة وما يتصل بها؛

ز- أية جرائم أخرى ذات الصلة والتي تنص عليها الإتفاقيات الدولية والتي تكون الدولة طرفا فيها.

ومفاد هذا النص أن جريمة غسيل الأموال جريمة عمدية، وكأية جريمة عمدية أخرى لا بد لوجودها من توفر ركنيها المادي والمعنوي.

ü    الركن المادي:

من المسلم به أنه لا جريمة بدون ركن مادي، لأنه المظهر الخارجي لها، وبه يتحقق الإعتداء على المصلحة المحمية قانونا، وعن طريقه تقع الأعمال التنفيذية للجريمة، ومن أجل هذا لا بد من توفر ركنها المادي وهو الشرط الأساسي للبحث في مدى توافر الجريمة من عدمه[30].

وطبقا لنص المادة (2) من القانون الإتحادي السالف الذكر، يتخد الركن المادي لجريمة  غسل الأموال ثلاث صور من السلوك تهدف جميعها إلى تضييق الخناق على كافة الأشخاص المرتبطين بعملية الغسيل وهي:

- الصورة الأولى: تحويل أو نقل أو إيداع.

وتتمثل هذه الصورة في تحويل أو نقل أو إيداع عائدات إحدى الجرائم المنصوص عليها في النبد (2) من المادة (2) من قانون تجريم غسل الأموال، وذلك بقصد إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لهذه العائدات أو بقصد مساعدة أي شخص متورط في إرتكاب مثل هذه الجرائم على الإفلات من العقاب، وفي هذه الصورة يبرز دور المصرف الفعال في مدى قدرته على القيام بعمليات التحويل والنقل بكل حرية لمجموع الأموال المتحصلة من الجرائم، ويمكن أن يتم هذا التحويل إما داخل مصارف داخلية وطنية، وإما من المصرف الوطني إلى مصارف أجنبية.

-         الصورة الثانية: الإخفاء أو التمويه.

وتتمثل في إخفاء أو تمويه حقيقة المتحصلات أو مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها أو ملكيتها، وتبدو هذه الصورة ملائمة لحقيقة الوسائل المتطورة والتقنيات المصرفية بالغة التعقيد التي تساهم على نحو أواخر في عملية غسيل الأموال وتيسر لها دون أن تندرج تحت الصورة الأولى.

أ-الإخفاء: وهو يشمل كل عمل من شأنه منع كشف الحقيقة للمصدر غير المشروع، وبأي شكل وبأية وسيلة، سواء كان هذا الإخفاء مستورا أو علنيا، فلا عبرة يكون الإخفاء قد جرى سرا، كما لا يهم سبب الإخفاء، فيتوافر فعل الإخفاء ولو كان بطريقة مشروعة بطريق الهبة أو الوديعة أو المعاوضة أو الإجارة أو غير ذلك[31]

ب- التمويه: ويقصد به إصطناع مصدر مشروع غير حقيقي للأموال غير المشروعة، كإدخال هذه الأموال في صلب الأرباح الناتجة عن إحدى الشركات القانونية، فتظهر هذه الأموال وكأنها أرباح مشروعة ناتجة عن النشاط المشروع للشركة القانونية.

ج- محل الجريمة أو الإخفاء أو التمويه: محل الجريمة الذي يرد عليه السلوك المادي بصورة السابقة، يشمل الأموال والمتحصلات الناتجة عن أية جريمة من الجراتئم المنصوص عليها في البند 2 من المادة 2 من القانون الإتحادي المتعلق بمكافحة جريمة غسيل الأموال، ويقصد بالأموال الأصول أيا كان نوعها، مادية كانت أم غير مادية، منقولة أو ثابتة وكذلك المستندات القانونية أو الصكوك التي تثبت تملك هذه الأصول أو أي حق متعلق بها.

أما المتحصلات فهي أية أموال ناتجة بطريق مباشر أو غير مباشر عن إرتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في البند 2 من المادة 2 من نفس القانون[32]، ويسمح هذا التعبير بإستيعاب كل صور المتحصلات دون قصرها على الأموال النقدية أو المنقولة فقط.

ü    الركن المعنوي:

يمثل القصد الجنائي أكثر العناصر تعقيدا في المجال الجنائي بإعتباره متصلا بالحالة الذهنية التي كان الجاني حين أقدم مختارا على إتيان الفعل المؤشر قانونا، وهو أدخل إلى العوامل الشخصية التي يتعين تمييزها عن العوامل الموضوعية التي تعكس مادية الفعل، أو الأفعال التي إرتكبها، والتي يمكن الرجوع إليها وتقييمها، كاشفا عادة عما عناه منها وقصد إليه من مقارنتها، فالفرق بين الجريمة العمدية وغير العمدية، دائرا أصلا حول النتيجة الإجرامية التي أحدثتها، فكلما أرادها الجاني وقصد إليها موجها جهده لتحقيقها، كانت الجريمة عمدية، فإذا كان إحداثها غير مقصود، بأن كان لا يتوقعها أو ساء تقديره بشأنها، فلم يتحوط لدفعها ليحول دون بلوغها، فإن الجريمة تكون غير عمدية[33].

وقد تطلبت المادة 3 من إتفاقية فيينا سنة 1988 على ضرورة توفر الركن المعنوي في جريمة غسيل الأموال فنصت على أن يكون الفعل بهدف إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال مع العلم بأنها مستمدة من جريمة.

ولذلك حرصت التشريعات التي جرمت عمليات غسيل الأموال ومنها التشريع الإماراتي موضوع دراستنا على النص صراحة في المادة (2) من قانون مكافحة غسيل الأموال، على أن هذه الجريمة عمدية بكل صورها، ويترتب على ذلك أن يشترط على الجاني بالمصدر غير المشروع للعائدات أو المتحصلات وأنه يجري غسل الأموال الناشئة عن جريمة من الجرائم المشار إليها في البند 2 من المادة 2، فالجريمة لا تقوم إلا إذا إنصرفت إرادة الجاني إلى إرتكابها، ويضاف إلى ذلك ضرورة علم الجاني بطبيعة النشاط الذي يقترفه[34].

وتعتبر جريمة غسيل الأموال من الجرائم المستمرة، وبالتالي فهي تقوم قانونا متى قصد الجاني عمليات الإخفاء أو التمويه، وتوافر علمه بمصدر الأموال غير المشروع، حتى ولو كان حسن النية لحظة إكتساب الأموال أو المتحصلات، أو البدء في إستخدامها.

وإدراكا من المشرع الإماراتي لخطورة وأهمية البنك في مثل هذه الجرائم، فقد أفرد نص المادة(3) من القانون الإتحادي المتعلق بمكافحة غسيل الأموال للتأكيد على مسؤولية المؤسسات والمنشآت المالية، والمنشآت المالية الأخرى والتجارية والإقتصادية العاملة في الدولة الجنائية عن جريمة غسل الأموال إذا إرتكبت بإسمها أو لحسابها عمدا وذلك دون الإخلال بالجزاءات الإدارية المنصوص عليها في القانون.

الفقرة الثانية: أثر غسيل الأموال على الإقتصاد الوطني.

رغم الإيجابيات التي تنطوي عليها عملية غسيل الأموال على المستوى الظاهري كالرفع من المستوى المعيشي لبعض الفئات القليلة في المجتمع، فإنه على المستوى الواقعي تشكل هذه الظاهرة كارثة حقيقية على الإقتصاد الوطني، فالأموال غير المشروعة العائدة من المخدرات وغيرها من الأعمال الإجرامية والتي لا تدخل ولم تسجل في الحسابات الوطنية للدولة أدت إلى حدوث آثار سلبية سواء على الدخل الوطني (أولا)، أو على الإستهلاك والإدخار وكذا الإستثمار والبطالة( ثانيا).

 

أولا: أثر غسيل الأموال على الدخل الوطني وتوزيع الدخل.

يجب التمييز هنا بين الأموال غير المشروعة الناتجة عن الرشوة والإختلاس والتهرب الضريبي وإستغلال النفوذ، وبين الأموال العائدة من تجارة المخدرات وتزييف العملة.

ففيما يتعلق بالأنشطة الأولى فإن الأموال المحصلة فبها يتم تهريبها إلى الخارج، وهذا يشكل نزيف للإقتصاد الوطني، فالشخص الذي يحصل على جانب مهم من الدخل الوطني الحقيقي والمشروع، كان من المفروض أن يتم إستثماره على أرض الوطن وبالتالي زيادة في الدخل القومي بدل إقتطاع جزء مهم، بالإضافة إلى أن غسيل الأموال الناتج عن التهرب الضريبي لها إنعكاس سلبي على الخزينة العامة بحيث تحرم هذه الأخيرة من مبالغ كانت ستوجه لتمويل برامج الدولة، وحرمان الخزينة من هذه المبالغ يؤدي إلى عجز في الميزانية العامة وإنخفاض الدخل القومي، وأمام هذا الإنخفاض الناتج عن غسيل الأموال تلجأ الدولة إلى فرض ضرائب جديدة أو الزيادة في العبء الضريبي الموجود فعلا وهذا ينعكس سلبا على نفسية الملزم ويشجعه إلى المزيد من التهرب الضريبي[35]، وإما أن يلتجئ أصحاب هذه الدخول غير المشروعة إلى الزيادة في معدلات الإستهلاك كشراء السيارات الفاخرة والعقارات والذهب والمجوهرات.... وهذا يؤدي إلى إنخفاض الإدخار.

ثانيا: أثر غسيل الأموال.على التضخم وقيمة العملة الوطنية

تؤثر عمليات غسيل الأموال سلبيا على معدلات التضخم، فهذه العمليات سواء تمت في صورة نقدية عبر البنوك والقنوات المصرفية، أو في صورة عينية عن طريق شراء الذهب والعقارات والسلع المعمرة، فهي تؤدي في جميع الحالات إلى رفع معدلات التضخم في الإقتصادات التي تنتشر فيها، ويرجع ذلك إلى أن هذه العمليات تغرق السوق بكميات كبيرة من الأموال التي تجد طريقها إلى تيار الإنفاق الإستهلاكي من خلال شراء السلع المعمرة والعقارات، ويؤدي ذلك إلى ضغط على المعروض السلعي بواسطة أصحاب الأموال المخولة، وهي فئات تتسم في الغالب بعدم الرشد والعشوائية في الإنفاق مما يؤدي إلى زيادة جانب الطلب الكلي في المجتمع[36]، ومن تم زيادة المستوى العام للأسعار مع ما يرتبه ذلك من آثار سلبية أخرى تتمثل في تدهور القوة الشرائية للنقود.

كما تؤثر عمليات غسيل الأموال سلبا على قيمة العملة الوطنية نظرا للإرتباط الوثيق بين هذه العمليات وتهريب الأموال إلى الخارج، كما أن عمليات تؤدي إلى زيادة الطلب على النقد الأجنبي الذي يتم تحويل الأموال المهربة إليه، بقصد إيداعها في البنوك الخارجية أو الإستثمار في شراء الأوراق المالية في الخرج وغيرها. وتؤدي زيادة الطلب على النقد الأجنبي، وما يعنيه ذلك من زيادة المعروض من العملة الوطنية إلى إنخفاض قيمة العملة الوطنية في سوق الصرف الأجنبي، وعند عودة الأموال المغسولة إلى الدولة فإنها تؤدي إلى إحداث ضغوط تضخيمية داخل الإقتصاد الوطني[37]، مما يؤدي إلى تدهور القوة الشرائية للنقود وإنخفاض قيمة العملة الوطنية بالمقارنة بالعملات الأجنبية.

لكل ما سبق نرى أنه لابد من تضافر مجهودات المشرع والقضاء، الأول في خلق قانون مكتمل لمكافحة غسيل الأموال، والثاني في تضييق الخناق وتوقيع أشد العقوبات على كل من إرتكب مثل هذه الجرائم..

 

 

                                                                                   تم بحمد الله وتوفيق منه

 



[1] - زهير الزبيدي. التعريف بجرائم التهريب في الوطن العربي، أبحاث الندوة العلمية السادسة. دار النشر بالمركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب. الرياض. 1988. ص: 13.

[2] - سيدني وينتروب. ترجمة أحمد محمود. دار الثقافة العالمية. العدد 119 يونيو 2003 ص: 16.

[3] - إدريس بلمحجوب. دور الأجهزة القضائية والمؤسسات المالية في مكافحة غسيل الأموال. مجلة القضاء والقانون. العدد 151 ص: 26.

[4] - مجموعة أعمال الحلقة العربية الأولى للدفاع الإجتماعي. القاهرة 1966.

[5] - عبد الرؤوف مهدي. المسؤولية الجنائية عن الجرائم الإقتصادية. منشأة المعارف بالإسكندرية. 1976. ص: 60

[6] - منشور بالجريدة الرسمية عدد 4210 بتاريخ 16 محرم 1414 ( 7 يوليوز 1993) ص: 1156. النشرة العامة.

[7] محمود مصطفى. الجرائم الإقتصادية في القانون المقارن. الجزء الأول. طبعة 1979 ص: 76.

[8] - نفس المرجع ص: 76.

[9] - والمثال البارز على ذلك بيع النبيد بثمن غير مبرر في فرنسا والمنصوص عليها في القانون الصادر في 24 ديسمبر 1934 والذي ينص في المادة 18 منه على أحكام خاصة بالتجريم تختلف في عناصرها عما يتضمنه المرسوم الصادر في 30 يونيو 1945 بشأن جريمة الإرتفاع غير المشروع بالأسعار لإختلاف السياسة الإقتصادية التي صدر في ظلها كل من التشريعين. أورده عبد الرؤوف مهدي.م.س. ص: 90.

[10] - راجع ظهير 13 شتنبر 1938 والمتعلق بالتنظيم العام للبلاد زمن الحرب بالجريدة الرسمية بتاريخ 16 شتنبر 1939 المنظم لتصدير رؤوس الأموال وعمليات الصرف وتجارة الذهب في زمن الحرب والصادرة بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 ماي 1940 ص: 459.

[11] - سامي النصراوي. الخطأ الجنائي في الجرائم الإقتصادية طبقا لأحكام القانون الجنائي المغربي. ملخص محاضرات ألقيت على طلبة دبلوم الدراسات العليا المعمقة. جامعة محمد الخامس. كلية الحقوق الرباط 1983 ص: 2.

[12] ظهير شريف رقم 225- 00- 1 بتاريخ 5 يونيو 2000. الجريدة الرسمية عدد 4810 بتاريخ 6 يوليوز 2000 ص: 1941.

[13] - عبد الرؤوف مهدي. م. س.ص : 68.

[14] - أحمد عبد العزيز الألفي. تنوع الجزاءات وأهميته في مكافحة الجرائم الإقتصادية. منشور بمجلة الوقاية من الجرائم الناجمة عن النمو الإقتصادي. سلسلة الدفاع الإجتماعي، عدد 7. الطبعة الأولى 1983. ص: 160.

[15] - عبد العزيز الألفي. م.س.ص: 162.

[16] - عبد الرسول خضر الجصاني. دور أجهزة العدالة الجنائية في الوقاية من الجرائم الإقتصادية. منشور بمجلة سلسلة الدفاع الإجتماعي. عدد 7. الطبعة الأولى 1983 ص: 192.

[17] - راجع على سبيل المثال الفصل 35 من قانون تنظيم الأثمان ومراقبتها، والفصل 217 من مدونة الجمارك و الضرائب غير المباشرة.

[18] -أستاذنا  عبد الواحد العلمي.شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، طبعة 2002، ص: 89.

[19] - محمود مصطفى. م.س.ص: 97.

[20] - بضراني نجاة. القانون الجنائي القسم العام. الجزء الثاني. دار النشر الشرفية. وجدة طبعة 1992. ص: 75.

[21] - خالد حلمي. ظاهرة غسيل الأموال ومسؤولية البنوك في مكافحتها. بحث مقدم إلى مؤتمر الأعمال المصرفية الإلكترونية بين الشريعة والقانون المنعقد من 10 إلى 12 مايو 2003 في كلية الشريعة والقانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة. المجلد الثالث ص: 1365.

[22] - زغلول محمد البلشي. مسؤولية البنك الجنائية عن جرائم غسل الأموال. بحث مقدم إلى مؤتمر الأعمال المصرفية الإلكترونية بين الشريعة والقانون المنعقد ما بين 10 و 12 ماي في كلية الشريعة والقانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة. المجلد الخامس. ص: 1915.

[23] - خالد حلمي. ظاهرة غسيل الأموال وآثارها على الإقتصاد الوطني. مؤتمر القانون وتحديات المستقبل في العالم العربي. كلية الحقوق. جامعة الكويت. الجزء الثاني. 1999 ص: 607.

[24] - عادل علي المانع. البنيان القانوني لجريمة غسيل الأموال. مجلة الحقوق. جامعة الكويت. العدد 1. السنة 29 مارس 2005 ص: 77.

[25] - سعود بن عبد العزيز المريشيد. جرائم غسيل الأموال مؤتمر القانون و تحديات المستقبل في العالم العربي. كلية الحقوق. جامعة الكويت 1999 ص: 859 وما بعدها.

[26] سليمان عبد المنعم. مسؤولية المصرف الجنائية عن الأموال غير النظيفة. دار الجامعة الجديدة. الإسكندرية. 1999 ص: 116.

[27] - خالد حلمي. ظاهرة غسيل الأموال ومسؤولية البنوك في مكافحتها.م.س.ص: 1375.

[28] - إدريس بلمحجوب.م.س.ص: 34.

[29] - عادل علي المانع. م.س. ص: 79.

[30] - زغلول البلشي. م.س. ص: 1924.

[31] - نادر عبد العزيز شافي.مكافحة تبييض الأموال. بحث مقدم إلى مؤتمر الجديد في أعمال المصارف من الوجهتين القانونية والإقتصادية. كلية الحقوق. جامعة بيروت العربية. الجزء الثالث 2003. ص: 184.

[32] -

[33] - الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدستورية العليا (المصرية). من أول يوليو 1993 حتى آخر يونيو 1995. الجزء السادس. ص: 29.

[34] - زغلول محمد البلشي. م.س. ص: 1927.

[35] - بيترج كوريك. غسيل الأموال وأثرها على الإقتصاد الوطني. مقال منشور بمجلة التمويل والتنمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي مارس 1997. ص: 8.

[36] - صفوت عبد السلام عوض الله. الآثار الإقتصادية لعمليات غسيل الأموال ودور البنوك في مكافحة هذه العمليات. بحث مقدم إلى مؤتمر الأعمال المصرفية الإلكترونية بين الشريعة والقانون المنعقد ما بين 10 و 12 ماي 2003 كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات العربية المتحدة. ص: 1554.

[37] - صفوت عبد السلام عوض الله. م.س . ص: 1555.

ليست هناك تعليقات

فضلاً وليس أمراً
اترك تعليقاً هنا