-->
Powered By Blogger

قلق الحياة في أدب أبي العلاء المعري حامد صادق قنيبي أستاذ مشارك، كلية الآداب جامعة الإسراء الخاصة

قلق الحياة في أدب أبي العلاء المعري

حامد صادق قنيبي

أستاذ مشارك، كلية الآداب

 جامعة الإسراء الخاصة



 

توطئة

قَلِقَ لغةً (بكسر اللام): اضطربَ وانزعج، وهو قلِقٌ (بكسر اللام). والقَلَقُ (بفتح القاف واللام): حالة انفعالية تتميز بالخوف مما قد يحدث. ومن باب الألفاظ المترادفة والمتقاربة لِـ (القلق): الجزع، والهمّ، والغم، واليأس، والخشية، والسأم، والضجر، والتبرم، والملل،والسخط، والرهبة. ونقيضها: الاطمئنان، والسكينة، والرضا،والأمن، والسلام. ( [1])

والْقَلَقُ (اصطلاحاً): تعبير يستعمله المتأخرون من علماء الأخلاق ، وعلماء النفس "وهو استعداد تلقائي للنفس يجعلها غير راضية بالواقع، فإذا تَطَلَّع المرءُ إلى الأحسن والأفضل - ونظر إلى حياته الواقعية - فوجدها محفوفة بالمخاطر، بعيدة عن تحقيق ما يصبو إليه من الكمال والسعادة، أحسَّ بالقلق والغَمِّ.. وقد يشتدّ القلق حتى يصبح مرضاً، كما هو في نفوس أصحاب الوساوس الذين تغلب عليهم السوداء ، وتستحوذ على عقولهم التصورات المؤلمة التي لا سبيل إلى دفعها، فالنفس القلقة مضادة للنفس المطمئنة التي تتفاءل بالخير وتتوكل على الله.([2])

ونفهم من تعريف (القلق) أنه نوعان؛ أولهما القلق المحمود، أو السوي؛ حين يكون القلق عدم الرضى بالواقع الذي لا يروق للمرء ولا يحقق رغباته (حسب معتقداته)، ويكون حالئذٍ استجابة لمواقف محددة كالقلق عند انتظار حدثٍ لموعدٍ أو زمانٍ أو مناسبةٍ في حياة الإنسان العاطفية والروحية والمعاشية، من نحو انتظار غائب أو حبيب يترقب ساعة وصوله.أو قلق ما يمرُّ به الطلبة قبل الامتحان، وكذلك قلق ترقب إعلان نتائج مسابقة أو نحو ذلك. أو قلق الأمهات والآباء على أبنائهم إذا ألمَّ بأحدهم مرض . أو قلق انحباس المطر في بلادنا.. ونحو ذلك كثير. وقد يرتقي هذا النوع إلى قلق الانشغال بالهمِّ العام للأفراد والجماعات، والتطلع إلى تغييره إلى الأفضل، فيكون حينئذٍ مهمازاً للرقي والنهضة لتحقيق ما يصبو إليه الفرد من طموح، أو تحقيق ما تتطلع إليه الجماعة.( 3)

والنوع الثاني من القلق، هو القلق السوداوي، وهو القلق المَرضي غير المحمود كما ورد في التعريف الاصطلاحي الآنف الذكر. والمقصود          بـ ( الواقع) في التعريف هو لفظ الحياة ( 4) الدنيا التي يعرفها الإنسان بمميزاتها ومظاهرها، والتي أهمها شدَّة الحساسيِّة، والاستجابة للمؤثرات الخارجية والداخلية، والاهتزاز والحركة الدائبة المستمرة. ومن مرادفات (الحياة) في بحثنا هذا: الحياة الدنيا، الدنيا، دنيا، الدهر، عيش، أمُّنا. وفي السياق غالباً ما يتجاور لفظ (الحياة) مع (الموت)( [4]) الذي هو نهاية كل حيِّ، قال تعالى:õتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرõالَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاًõ.(6)

وقف أبو إسماعيل، عبد الله الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي             ( ت 481 هـ) في كتابه (منازل السائرين) عند منزلة (القلق) كأحد المتغيرات التي تصيب الإنسان من حين لآخر. والقلق عنده ثلاث درجات؛ فقال؛ " القَلَقُ: تحريكُ الشوق بإسقاط الصبر؛ فالدرجة الأولى: قَلقٌ يُضيِّقُ الخُلْق [بضم الخاء] ، والثانية قلق يُبغضُ الخَلْق [بفتح الخاء] ، والثالثة قَلَقٌ يلذِّذُ الموت " (7)

فالحالة الأولى من القلق: غَمٌ يُضجِرُ مزاج صاحبه على احتمال الأغيار [الآخرين] مِمَنْ هم ليسوا على مذهبه أو هواه، وهذا مبدأ عام في التآلف والتنافر، وإسقاط الصبر هنا، أي ضيق الصدر والنزق. وأما الحالة الثانية من القلق، وهي البغضاء والكراهية؛ حالة تصيب الإنسان إذا كان في وسط اجتماعي مع وجود التنافر بينه وبين مَنْ يخالطهم في هذا الوسط. والحالة الثالثة ذلك القلق الذي يحدث نتيجة ذكر المحبوب – شخصاً أو ذاتاً أو مذهباً – وعندها يشعر الإنسان باستعذاب الموت، وَلَكَ أن تقول الاستشهاد توقاً للحقِّ ولقائه.

ومما سبق يتَّضِحُ أن القلق من وجهة نظر الإسلام لا يصل إلى حدِّ القلق المرَضي (بفتح الراء). بل هو قلق صحيح. حيث يشير ( صاحب المنازل) إلى القلق الذي يصاحب المسلم ويؤدي إلى صحة إيمانه. لأنَّ المسلم المتَّبِع لمنهج الله سبحانه وتعالى لا يقع فريسة لمثل أنواع القلق المَرضي الذي يتحدث عنه علماء النفس وفق النظريات النفسية المعاصرة. ذلك لأنَّ المنهج الإسلامي قد حدّد الطرق السليمة التي تعين الإنسان المسلم على تخطي لحظات الإحساس والشعور بالقلق إلى حالة الاستقرار النفسي، وخاصة مَنْ يلتزم التزاماً دقيقاً بأوامر الله ونواهيه.(8)

ويقتصر بحثنا هنا على وصف ظاهرة قلق الحياة في أدب أبي العلاء المعري (مظاهرها وأسبابها) مع العناية بديوان (لزوم ما لا يلزم)، والدراسات التي لامست هذه الظاهرة. وهذا باب متشعب في موارده إذ يشمل المكان والزمان والناس. ويتسع فيه مجال القول، وقد يبدو للوهلة الأولى متناقضاً لما له صلة بأبي العلاء، ذلك الرجل الذي اختلفت بل  وتشاكست فيه الآراء.

ولعله يمكننا القول إن قلق الحياة ورفضها هو مذهب أبي العلاء، ولسنا نأتي بهذا الرأي من عندنا، وإنما نستنطق آثار الرجل الذي يقول عن نفسه:           "إني بالحياة لَبَرِمٌ "(9) ويرى في الحياة شقاء وظلمة، إذ يقول: " ما البقاءُ إلاّ طول شقاء، والحياة ظُلمة ليس فيها إيَاة ". (10) والبَرَم: " حالة سأم وضجر وعدمُ ارتياحٍ لشيء ما؛ إما لبقاءٍ، أو تكرارِ حالةٍ، أو صحبةٍ معيَّنة " . (11)

ونعرض البحث وفق المخطط الآتي:

أولاً: قلق المرحلة الأولى.

ثانياً: قلق المرحلة الثانية.

ثالثاً: المزاج الفلسفي عند أبي العلاء.

رابعاً: مظاهر القلق (عرض وتحليل).

خامساً: نظرات إجمالية وخاتمة.

أولاً: قلق المرحلة الأولى: القلق(ظاهرةً ونزعةً) ليست بدعاً عند أَبي العلاء المعري(12)، بل هي ظاهرة عامة نجدها عند غيره على امتداد عصور الأدب، ولكن ثمّة مؤثرات شخصية واجتماعية ساعدت في تكوينها لدى أبي العلاء، على نحو ما تستعرضه فقرات البحث الآتية:

شغَل المعري الناس والنقاد والباحثين بشعره كما شغلهم قبله المتنبي           (ت 354هـ)، ونستطيع أن  نحدَّد طوريْن أو مرحلتين في حياته اختلفت فيهما نفسيته وآراؤه. ففي صدر شبابه لم يكن القلق قد استحكم فيه؛ فجارى الشعراء في الوصف والمدح والرثاء والفخر، ويُعَدُّ ديوان (سَقْطُ الزَّنْد) باكورة نتاجه الشعري، فقد حاز إعجاب القدامى والمحدثين واستحسانهم، فشوقي ضيف بعد أن أورد آراء القدامى، قال: " إن أبا العلاء الشاعر، إنما نلقاه في السقط ".(13) فُتِن بشعر المتنبي فجاراه في المضمون والشــكل على نحو ما نجده بارزاً في (سَقْطِ الزَّنْد)(14) 

ألا في سبيلِ المجدِ مـا أنا فاعلُ وإني، وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُـــهُ وأغدو، ولو أنَّ الصباحَ صـــوارمٌ

 

عـَفَافٌ وإقْدامٌ وحزمٌ ونائــلُ لآتٍ بما لم تستَطِعْه الأوائـــلُ وأَسْرِي، ولو أنَّ الظلامَ جَحَافِـلُ

ولا نعدم أن نلحظ فيما ضمّه "سقط الزند" قلقاً مشوباً بإرهاصات  ُتنبىءُ بما ستؤول إليه نفسيته وتأملاته في الكون والحياة والإنسان ،ومن ذلك قوله:(15)

أَرى العنقاءَ، تكبر أَنْ تصادا إِذا ما النارُ لم تَطْعَمْ ضِرامـاً فظُنَّ بسائِرِ الإخوانِ شـــرّاً

 

فعاند من تطيقُ لهُ عنادا
فأَوشك أَنْ تَمٌرَّ بها رمادا
ولا تأمن على سرٍّ فؤادا

و قوله:(16)

تجَنبتُ الأنام فلا أُواخَــى فأيّ الناسِ أَجعلُهُ صديقــاً

 

وَزدْتُ عن العدو فلا أُُعادى،
وأَيُّ الأرضِ أسلكهُ ارتيـادا؟

وظلّت نفس أبي العلاء المعري طامحة إلى المعالي ظناً أن مواهبه تعوضه عن عجزه فمضى في اندفاعة الشباب ، يبهر أهل بلدته بنادر ذكائه وسعة علمه ومواتاة شاعريته، وأسرف في أخذ نفسه بالتفتح للدنيا والإقبال على الحياة ، مع الولع بالعلم والجِد في طلبه(17) . فها هو يطلب أعلى المراتب، حيث يقول:(18)  

أريدُ عَليّاتِ المراتب ضِلةً

 

وخرطُ قتاد الليل دون عُليانِ

قلق العمى السرمدي

ولكنَّ قلق العمى والعجز المصاحب له ظلا عقبتين على طريق تحقيق ما تصبو إليه نفسه الطامحة إلى المعالي فاستبدل العصا بالسيف والرمح يتحسس بها الطريق كيما لا يصطدم بالبشر والحجر ، يقول:(19)

عصاً في يد الأعمى يرومُ بها الهدى

 

أَبرُّ له من كلَّ خِدْنٍ وصاحب

وبدلاً من ركوب الخيل واقتحام الوغى صار يحتاج إلى من يأخذ بيده في كل خطوة يخطوها فناشد الناس أن يأخذوا بيد الكفيف صدقة عن أنفسهم:(20)

تَصَدّقْ على الأعمى بأخذِ يمينه

 

لتَهدِيَه وامنُنْ بإفهامِك الصُّما

ذلك أنه في الرابعة من عمره أصابه الجُدري فَشوَّه وجهه وذهب بنور عينيه وأسدل بينه وبين الحياة ستاراً صفيقاً من ليل سرمدي دام بضعة وثمانين عاماً، وها هو يحدثنا عما جرى له فيما كتب في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة الفاطمي(21) ، حيث يقول: " وقد علم الله أن سمعي ثقيل وبصري عن الإبصار كليل، وقُضي علي وأنا ابن أربع أن لا أفرَّق بين البازل والرُّبع، ثم توالت محني حتى أشبه شخصي العود المنحني، ومُنيت في أُخرى العُمر بالإقعاد وعداني عن النهضة عادٍ ".(22) وقد أَلِمَ من هذه الآفة ألماً شديداً في نفسه و مازال يشكو مُرَّ الشكوى إلى آخر يوم من حياته فهو يقول للدنيا:(23)

وأوقدتِ لي نارَ الظلام فلم أجد

 

سَناكِ بطرْفي بل سِنانَكِ في ضِبني

وتُعتَصرُ القلوب ألماً وشفقة إذ يُظهر مدى حرقته بسبب هذا العجز الدائم وهذا التأوه الباكي الحزين، إذ يقول:(24)

وما بي طِرقٌ للمسير ولا السُرىَ

 

لأني ضريرٌ، لا تُضيءُ ليَ الطُّرق

وهذه الآفة قد حبست نفسه الكبيرة الطموح عن أن يكون ما يريد من المجد والعلياء فها هو يخاطب نفسه هذا الخطاب الحزين:(25)

حَبَستكَ أقدارٌ ذَوَتْكَ عن المــنى

 

فمضى الصَّحابُ وأنتَ ثاوٍ حابسُ

ولا يزال يذكر آفته في كل نتاجه الفكري شاعراً وناثراً، فنقرأ في رسالة الغفران:  " والحوج على ذات عوج ، وهي على سواي سهلة كالأنفاس ولو شاء الخالق لجعلني مثل الناس ".(26)وما أصعب الأمر على صاحب النفس الأبية أن يضطر إلى الاستعانة بغيره فهو يسمي نفسه في هذه الرسالة الأدبية العظيمة             (المستطيعُ بغيره لا بنفسه ) ونقرؤه في قطعة عنيفة جمع فيها كلَّ آلامه التي سببتها له عاهته الدائمة فقد أضاعت عنه لذائذ الدنيا وأفقدته الشباب الذي لا يعوض، وحرمته من الحب الذي هو حق طبيعي من حقوق البشر، وجعلته وحيداَ محروماً من الولد، وإنَّنا لنرهب زفراته المحرقة وهو يقول:(27)

عَمى العينِ يتلوه عمى الدين والهُدى

 

فلْيلتَي القُصوى ثلاثُ ليـــالِ

وما سرّني رَبُّ الخيال بشخصـــهِ

 

فيطلب مني النومُ طيفَ خـيال

وهوَّن أرزاءَ الحوادثِ أننـــــي

 

وحيدٌ ،أعانيها بغيِر عيـــال

فدعني وأهوالاً أمارس ضنكهــــا

 

وإياك عني لا تقِفْ بحيــالي   

القلق عنده ظلمات ثلاث يحيط فيهن: عمى البصر، والحيرة في أمور الدين، وعمى البصيرة. شخّص طه حسين مشاعر الأعمى، وما تترك مصيبة فقدان البصر من حزن عظيم "  يَلْزَمُ الأعمى في جميع أطوار حياته لا يفارقه ولا يعدوه.. كلما عرضت له حاجة... [والمكفوف] عاجز عن تحصيل قوته إلا بمعونتهم، وهو عاجز عن شفاء نفسه من حب العلم والمطالعة إلا بتفضلهم، وهو عاجز عن الكتابة والتحرير إلا إذا أعانوه وتطولوا عليه.. ثم بعد ذلك قد حرم لذة التمتع بالمحسوسات كالمبصر؛ فإن تعاطى صناعة الشعر أو الوصف؛ فإن هذا الحرمان قد استتبع ضعف خياله. وحال بينه وبين مجاراة الشعراء والواصفين فيما يتنافسون به إلا أن يكون مقلداً أو محتذياً ".(28) ويتابع بعد ذلك فيقول: " .. ثم هو بعد ذلك قاعد إذا نفر الناس لقتال أو حرب وقد يئس وطنه من نصره، وقنط من حفاظه، فلم يُنِطْ به أملاً ، ولم يعقد به رجاء. كَلٌّ            له نافلة من فضيلة الصبر وشدة الأيد؛ فإذا أضيف إلى هذه الآلام فسادُ الأخلاق وانحطاط النفوس وازدراء المنكوبين وأصحـاب الآفات -حتى من الخاصة وأهل العلم - ثم اشتداد الفقر ونضوب موارد العيش؛ أنتجت هذه المصيبة ، أفدح الآلام حتى يتوفاه الموت الذي وُكِّلَ به "(29).

حاول أن يكون - بهمته العظيمة - كغيره من العظماء يطلب المجد فإن كان فاته مجد السيف، فلم يفته مجد العلم والأدب الذي حاول أن يبدع فيه تعويضاً عما لم يستطعه، فكان له ما كان من مجد أدبي حتى صار من الخالدين في ذاكرة الأدب واللغة ؛ فطوف في البلدان، في مراكز الحضارة في حلب وأنطاكية حيث التقى رهبان الأديرة من النصارى، وقرأ عليهم الفلسفة واللاهوت وناقشهم في قضاياها ومعضلاتها، وارتحل إلى بغداد عاصمة الدنيا والدين وبلد الثقافة والمعرفة بكل أنواعها، فاطَّلع على كل ما كان فيها من علوم وفلسفات وفِرَق ومذاهب وأديان. ومكَّنته هذه المعارف والعلوم التي حواها صدره وتفاعل معها عقلــه المفكر وذاكرته الخارقة يصول ويجول بشعره ونثره  في ميادين الكون والحياة وقضايا المجتمع، ومسائل الموت والحياة، ومعضلات الحرية والاختيار، والجبر والحساب، والبعث والمعاد، والحشر وتناسخ الأرواح، مترفعاً بشعره عن نفاق المدّاحين، ومبتعداً عن كذب الهجائين، نائياً بشعره عن التكسب والارتزاق المُهين.

ثانياً: قلق المرحلة الثانية

وَصَفَتْ له الحياة حيناً؛ وأقرَّ له البغداديون بأنه أعجوبة الزمان في حفظه وعلمه باللغة، كما شهدوا لشاعريته... ولكنْ ما لبثوا أنْ تحولوا عنه، وقلبوا له ظهر المجن، وكان الأمر أن وصل إلى إهانته علناً في مجلس كان يضم عِلْيةَ القوم في بغداد، ففي مجلس الشريف المرتضى حيث كان كبار أهل العلم والأدب ورجال الفكر والفلسفة يتداولون سيرة المتنبي شاعر العربية الأكبر، ويتناولونه بالنقد والتجريح محاباة للشريف المرتضى الذي كان يكره أبا الطيب كرهاً شديداً، لم يرتض أبو العلاء هذا النفاق، فأعلن بينهم رأيه صريحاً يَجبهُ أهل الحسد والنفاق، عندما سئل عن رأيه في أبي الطيب، فقال: لو لم تكن له إلا قصيدته التي يقول فيها:

لكِ يا منازل في القلوب منازل

 

أقفرتِ أنتِ وُهنَّ منك أواهِلُ

لكفته فخراً، فأمر الشريف المرتضى بإخراجه من المجلس وطرده بعنف، فسحب بجسمه النحيل الواهن من رِجله وأُلقي على قارعة الطريق. والتفت المرتضى إلى الحضور ، وقال: أتدرون لمَ اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها؟ قالوا: ما ندري. قال: إنَّه يعرِّض فيها ببيته المشهور: (30)

وإذا أتتكَ مذمتي من ناقـصٍ

 

فهي الشهادة لي بأني كامل

هذه الحادثة المؤلمة كانت سهماً أصمى قلب أبي العلاء. ووضعت حداً فاصلا بين مجاهداته لنفسه في التغلب على آفته والتعالي فوق مصيبته، وأهبطته إلى أرض الواقع،وسلبت منه لحظات الخيال الذي كان يتناسى فيه حقيقته الجسمية، وأفهمته أن حياته - مهما فعل - لن تكون كحياة المبصرين.

لقد كان أبو العلاء مدركاً لهذه الحقيقة ، ولكنه أراد التغلب عليها ، فما كان له ذلك فقرر مغادرة بغداد والعودة إلى كِسرِ بيته في المعرَّة ليمكث فيه خمسين سنة [رهين المحبسين]، لا يخرج منه إلا إذا دفعته أمور قاهرة إلى الخروج وعلى قدر الضرورة لا يتجاوزها، يعيش عيش الزاهد المترهب على أقل قدر يبقي الإنسان على قيد الحياة ، متأملاً في أحوال الكون والحياة والموت والآخرة والبعث والنشور وما إليها من أمور كونية .

لقد هبطت الروح المعنوية للمعري وأُحبِطَتْ طموحاته ، فأدرك أنه قد حُكِم عليه أن يبقى في سجونه: العمى، والبيت، وروح يقيدها الجسد، إذ يقول:(31)

أراني في الثلاثة من سجوني

 

فلا تسأل عن الخبر النَّبيــــثِ

لفقدي ناظري، ولزوم بيتـي

 

وكونِ النفس في الجـسد الخبيثِ  

فهو قد عاش المرحلة الأولى حتى الثلاثين يغالب نفسه ، فيغلبها حيناً وتغلبه أحياناً حتى كان الانتصار لها وها هو يحدثنا عن ذلك في رسالة الغفران:" وأن الله خلقني لأمر حاولت سواه فألفيت المبهم بغير انفراج"(32) ويقول:" هجّرت فما أغنى التهجير وأدلجت فما أغنى الإدلاج" .(33)

ويعقب طه حسين على السجن الثالث، فيقول: هو " سجن فلسفي تخيّله كما يتخيّل الشعراء، واشتقَّه من حقائق الأشياء. كما يفعل الفلاسفة... " هذا السجن الخيالي الفلسفي هو الجسم الذى أُكرهت النفس - كما كان يتصوّر أبو العلاء- على أن تستقر فيه لا تتجاوزه ولا تتعدّى حدوده إلا حين يقضي عليها الموت، وهي حينئذ تظفر بحرية لا تعرف كيف تقدرها ولا كيف تستمتع بلذّاتها أثناء هذه الحياة..."(34)

وفي اعتزاله النوعي، ألزم نفسه بالحرمان الطوعي، يقول طه حسين:        "لم يدع لنفسه شهوة إلا أذلها، ولا عاطفة إلاّ أخضعها لسلطان عقله... اعتدَّ بنفسه فارتفع بها عمّا تحتاج إليه الحياة من صراع، وآثرها بالعافية وألزمها القصد والاعتدال، وضنّ بها على الكذب والمين، وعلى البيع والشراء، ولم يرد أن يتشبّه بالملوك والأمراء في ملكهم وإمارتـهم، ولا أنْ يطمع فيما يفيد عندهم الشعراء والأُدباء والعلماء من رخيص اللذات يشترونه بأغلى الأثمان. وإنما أراد ما هو أرفع من ذلك مكاناً وأبعد من ذلك منالاً وأجل من ذلك خطراً، وأراد أن يتوحّد لأن الله واحد ".(35)

وهو نفسه قسم حياته إلى هذين الطورين إذ يقول في الفصول والغايات:       "ما زلت آمل الخير وأرقبه ، حتى نضوت كملا ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام جملاً أبرق فيه سواد وبياض، بياضه الأيام وسواده الليالي .. هيهات إن الزمن كثير الشرور؛ فلما تقضت الثلاثون، وأنا كواضع رجله على نار الحباحب، علمت أن الخير مني غير قريب". (36)

ويذهب الباحث عبد الكريم خليفة، الذي حقق الرسائل "المتوسطة" لرسائل أبي العلاء– إن محابس أبي العلاء لم تتجاوز الحبس الجسدي فقط. وإنَّ عزلته لم تكن سوى تأمل ودراسة وبحث وتدريس، وإنَّه ظل وثيق الصلة بالهمّ العام لديار الإسلام في مشرقه ومغربه، وإن رسائله تشهد بذلك.(37)

ثالثاً: المزاج الفلسفي عند أبي العلاء

طلب أبو العلاء المعالي والمكارم في غير اللغة والأدب؛ فما انقادت له، فعكف على استبطان ذاته، وفجّر مواهب عبقريته فيما خلّف من روائع الشعر والنثر أثناء عزلته واغترابه النفسي، يقول:(38)

و:(39)

طلبتُ مكارمـاً، فأجـدْتُ لفـظاً

 

كأنّّا خالدانِ على الزمـــان

 

أولو الفضل، في أوطانهم غربــاءُ

 

تـشذُّ وتنأى عـنهم القُربـاءُ

وهذا ما يراه الأستاذ أمين الخولي، حيث يقول: "اتخذ أبو العلاء ذخيرته اللغوية وثقافته الأدبية وسيلةً للتعبير الدقيق عن خواطر نفسية وتأملات فنية وخلجات داخلية كانت تزخر بها نفسه ويجيش بها صدره ".(40)

أيقن أبو العلاء أن مكابدته الحياة لم تنته، ولكنها تحوّلت إلى منحىً آخر؛ فمعركة القلق قد حمي وطيسها،ونار الصراع قد اشتد أُوارها، فإذا هو في طوره الثاني يعترف بواقعه الجسمي ، وينكر الدنيا ويكرهها كرهاً شديداً لا رجعة عنه، ويحارب الفطرة البشرية حرباً لا هوادة فيها، ويرفض الحياة ويرحب بالموت واجداً فيه الخلاص من عذاباته وآلامه فلم يعد يرى في هذا الوجود إلا كارثة كبرى، ولا في الناس إلا ذئاباً ضارية ، ولا في المرأة إلا قبحاً وبلاءً. وصاغ أفكاره هذه أدباً تشاؤمياً قلقاً، وألحاناً حزينةً وموسيقا مؤثرة.

اللغة واللفظ في فكر أبي العلاء

ويحسن أن نتوقف وقفة مناسبة للحديث عن دور اللغة واللفظ في فكر أبي العلاء، قبل الانتقال إلى الفقرات التالية. ومِمَنْ عالج هذه المسألة الشيخ عبدالله العلايلي، وهذا ملخص لما كتب: إنَّ المعري -كما يبدو للعلايلي- قد استحيا اللغة، وتلبسها لتعبِّر عما يريد، وللمعري لغته الخاصة، وله دلالاته ومفاهيمه، وله نحو وقواعد وبلاغة خاصة أيضاً، وعبثاً نحاول الاهتداء وسط الضبابية اللفظية المحيطة به، ونحن نعتمد على المعجمية اللغوية (فقط). ويرى العلايلي أن روافد تكوين المعري الفكرية، هي:

1.                          رسائل إخوان الصفا.

2.                          ازدهارالبحث اللغوي في عصره.

3.                          رمزية الباطنية الحرفية.

والرمزية الباطنية الحرفية تسلك مسلك استنطاق الحروف وتعتبر الحرف كائناً حياً، له جسد ودم وروح وعقل. وفي سبيل ذلك استخدمت             "حسـاب الجمل " لاستنطاق الحروف عن موحيات الأوضاع الفلكية، وما تدعوه " بالتنكيس" وهو شبيه بالجناس التصحيفي، لاستنطاق الجملة. وقد تبلورت رمزيتها هذه في فنون شتّى من الشعوذة، ونحن نجد عناصر هذه الرمزية في الرسائل جليَّة واضحة، كما فشت في اللزوميات على نحو يفوت الإحصاء(41).

كان المعري في بدايته يحيا في عالم لغوي من كلِّ أرجائه، فقد بدأ ثقافة لغوية خالصة انقطع إليها، وزاده انقطاعاً إلى عالمه اللغوي الخالص، انطفاء حاسّة هي أشد الحواس في الكائن جذباً إلى المادة ذات الألوان.

إذن ، فالمعري ليس له ما يصله بالواقع المادي إلاّ الأضعف تشويقاً وتأثيراً. وإنه ليس له سوى صور الألفاظ كما يفترضها ، وهي تحياه ويحياها فيطمئن ويغتبط، وتشوقه كثيراً فيستلذها ويتذوقها. إنه يحس بكيانه فيها. وهي- أي الألفاظ – في حسِّه ينبوع يتدفّق مثل شلاّل هادر... دخل بها إلى المجهول الكوني والغيبي، فأدرك واتّخذ من أوهام الناس ألعوبة تمدّه بالعبث والنشوة الساخرة وموضوعاً للنكاية في التعريض قال:(42)

والبرايا لفظُ الزَّمان ولا بُـ

 

دَّ لهُ من تغيُّرٍ وانقــــلاب

أي إن المخلوقات ألفاظ الزمان، وتتغير الألفاظ في الصرف والنحو، وكذلك المخلوقات لا تبقى على حال واحدة.

ولعلَّ طه حسين كان أكثر المحدثين تأكيداً على هذه الظاهرة عندما توقف عند الصياغة اللغوية للزوميات. من حيث هي عرض من الأعراض الدّالة على الفراغ الذي عاناه أبو العلاء بعد أن سُجن في سجونه الثلاثة، فهو يقول: " إن اللزوميات ليست نتيجة العمل وإنما هي نتيجة الفراغ،  وليست نتيجة الجِد والكدِّ وإنما هي نتيجة العبث واللعب، وإن شئت فقل إنّها نتيجة عملٍ دعا إليه الفراغ ونتيجة جِدٍّ جَرَّ إليه اللعب. ولأوضح ذلك بعض التوضيح فقد أُهدِّئ من ثورتك وأحوِّل إنكارك إلى إقرار واعتراف ".(43)  وبعد أن انتهى من توضيحه لظاهرة العبثية اللفظية الفلسفية ومبرراتها عند(رهين المحبسين) ، قال: "... ثم نظر فوجدَ أوقات فراغ طويلة لا يطاق احتمالها ولا يمكن الصبر عليها. فما قيمة ما حصل من العلم إذا لم يُعِنْهُ على قطع أوقات الفراغ هذه؟! غيره من الناس يلعبُ النرد والشطرنج ويضرب في الأرض، ويلمّ بالمجالس والأندية، ويجد في كســب القوت، ويستمتع بألوان اللذات،(44) وليس هو في شيء من هذا. فِلمَ لا يلعب بهذه الألفاظ؟ ولِمَ لا يلعب بهذه المعاني؟ ولمَ لا يتخذ من الملاءَمة بينها على أكثر عددٍ ممكن من الأوضاع والأشكال والضروب إلى التسلية والتلهية والاستعانة على الفراغ". (45)

 أقول: ليس من تناقض بين العلايلي وطه حسين في هذه المسألة، وإن عالجها كلٌّ منهما بأسلوبه المتميز. وينبغي أن لا نغفل أهمية ارتباط فكر أبي العلاء بأسلوبه ورؤيته الفنية لقلق الحياة فالعمل الأدبي كلٌّ متكامل تتكاتف فيه الأفكار مع الألفاظ والصور والعاطفة والإحساس في إطارٍ فنيّ خاص.

والقارئ لشعر أبي العلاء يستطلع مزاجاً فلسفياً دارت حوله (اللزوميات) حيث نجد فيها وقفات كثيرة تُعنى بالجماعة والمصير الإنساني، من نحو مشكلة الجبر والقدر، والعدل والجور، والرعية والرعاة، والدنيا والإنسان، إلى غير ذلك من قضايا إنسانية، وشؤون كونية.. مما فرض على دارسي (المعري) التوقف عند قضية اتّسعت فيها الآراء ، ألا وهي: أهو فيلسوف أم شاعر؟

أقول : المعنى اللغوي للفلسفة(حبُّ الحكمة) على الإطلاق، ومجالها( البحث في ما وراء الكون والإنسان والحياة)،  وترتبط الفلسفة في آلياتها بالمعرفة. وتُدرَك المعرفة بـ (العَقل) على حدِّ تعبير أبي العلاء(46). ويعّرف علماء التوحيد العقل بأنه:                  " نقل الواقع عن طريق الحواس إلى الدماغ، مقترناً بمعلومات سابقة تُعين على تفسير هذا الواقع "(47) ويتم النقل (بالمعقول والمنقول)؛ المعقول أي التجربة والمشاهدة والقياس (48)والمنقول؛ أي الخبر الصادق المتواتر؛ وهو عند ابن خلدون "يشمل العلوم النقلية الوضعية، وهي كلّها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلاّ في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول" وأصل هذه العلوم النقليَّة كلها هي الشرعيات".(49)

ويحدثنا أبو العلاء عن مصادر المعرفة لديه فيقول: " يدرك العلم بثلاثة أشياء: بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر ".( 50) ولكنَّ (العيان المدرك)؛ أي التجربة والمشاهدة لم يكن لأبي العلاء نصيب مباشر فيها لعاهة العمى لديه. وله إزاء  (الخبر المتواتر) تحـفظ حيث يقول : (51)

والعَقْلُ يَعْجَبُ، والشّرائعُ كُلُّها

 

خَبَرٌ يُقَلََّدُ لم يقسْهُ قائسُ

فلم يبقَ إلاّ العقل اتخذه إماماً هادياً، يقول مؤكداً: " العقل نبيء، والخاطر خبيءٌ ، والنـظر ربيءٌ ، ونور الله لهذه الثلاثة معين ".(52) ويقول:(53)

خذوا في سبيل العقل تُهدَوْا بِهديهِ

 

ولا تَرْجُوْنَ غَير المُهيمـنِ راجِ

ولا تطــفِئوا نورَ المليِك، فإنـه

 

مُمَتِّعُ كلٍّ مِنْ حِجـــاً بِسراج 

و: (54)

أيهّا الغِرُّ،إنْ خُصِصْت بعَقـــلٍ

 

فاسـأَلَنْهُ، فكلُّ عقلٍ نبـــيُّ

و: (55)

فاسألْ حِجاكَ، إذا أردتَ هدايـةً

 

واحبِسْ لسانَك أن يَقولَ مجـازا   

وهو يثق بالعقل ثقة بعيدة ويرى فيه الطريق الصحيح للوصول إلى المعرفة الحقة:(56)

إذا تفكرت فكراً، لا يمــازِجُهُ
 

 

فسادُ عقلٍ صحيحٍ، هان ما صَعُبا

ويتابع تأكيده على صحة العقل ووجوب اتِّباعه، فيقول:(57)

فشاوِرِ العقلَ واترُكْ غَيرُه هدَراً

 

فالعقلُ خيرُ مشيرٍ ضمَّه النادي
 

وحثَّ الناس على القياس العقلي قائلاً:(58)

وقِسْ بما كان أمراً لم يكنْ، تَره

 

فالرَّجلُ تعرِفُ بعض الموتِ بالخَدَرِ  

ويكاد في كثير من الأحيان ينفي أدوات المعرفة الأخرى التي ذكرناها قبلاً، وذكرها هو في معرض حديثه عن طرق تحصيل المعرفة، ويعتمد العقل وحده مصدراً مؤكداً للمعرفة حتى إذا رحل عن الدنيا ، يتركها وقد اعتمد في حياته على عقله لا غيره.(59)

سأَتبعُ مَن يَدعو إلى الخَيرِ جاهداً

 

وأرحَلُ عنها ما إمامي سوى عَقلي
 

و: (60)

نهانيَ عقلي عـن أمـورٍ كثيرةٍ

 

وطبعي إليها بالغريزة جـاذبي
 

ومما أدامَ الرُّزءَ تكذيبُ صادقٍ

 

على خبرةٍٍ منَّا، وتصديق كاذب
ِ

وينعى على أولئك الذين يصدقون الخبر النقلي الذي لا يدل عليه عقل صحيح،  فيقول:(61)

يرْتجي الناسُ أن يقــومَ إمامٌ
 

 

ناطقٌ في الكتيــبةِ الخرساءِ

كَذَبَ الظنُّ، لا إمامَ سوى العـ

 

قلِ، مشيراً فيِ صْبحِه والمساء

فإذا ما أطْعَتهُ جلــب الـــ

 

رحمـة عند المسير والإرساءِ
 

واتباعه لعقله إماماً دعاه إلى الشطط أحياناً، وحمله على التشكك، وأوقعه في التناقض؛ يقول:(62)

هفتِ الحنيفةُ والنصارى ما اهتدت

 

ويهود حارت والمجوسُ مضلّله

اثنانِ أهلُ الأرض:ذو عقل بــلا

 

دينٍ،وآخر ديَّنٌ لاعقــل لــه

وحمله الاستسلام إلى منطق العقل المجرد إلى التشكيك في الكتب السماوية، وفي ما جاء فيها من أخبار الأولين، يقول:(63)

أفيقوا أفيقوا ياغواة، فأنمـــا

 

دياناتكمْ مكرٌ من القدمـاءِ

أرادوا بها جَمْع الحطام، فأدركوا

 

وبادوا،وماتتْ سنّةُ اللؤماء

وبعد هذه الجولة وما فيها من شواهد يتضح لنا أن العقل عنده كان قاصراً، وذلك لأنه لم يسلّم بالمنقول، وإنما اعتمد على المنطق في إقامة البرهان، وأنه أعطى العقل حرية البحث في كل شيء ، فيما يحس وما لا يحسّ، ثم جعله أساس البحث في الإيمان، فترتب على ذلك وقوعه في التناقض.

   يقول شوقي ضيف: " لم يستطع أبو العلاء أن يخرج من تفكيره إلى إحداث نظرية معينة أو منهج معين يمكن أن نسميه (المنهج الفلسفي لأبي العلاء) ... وكان من حسن حظ أبي العلاء أن غالى كثير من المعاصرين الذين عنوا ببحثه فأثبتوه فيلسوفاً لِمـا رأوا عنده من تشاؤم وحيرة فيما وراء الطبيعة... وهل للعقل أن يحكم في قضايا ما وراء الطبيعة كما يحكم في قضايا الطبيعة؟.. وجملة القول إن أبا العلاء كان يفكر تفكيراً أدبياً يقوم على تشاؤم وسخط، وهو يعرض هذا التفكير في آراء متفرقة وأفكار مفككة، لا يطّرد لها نظام ولا سياق فكري متماسك ".(64) وفي معرض آخر يتساءَل: " ما هو الكتاب الذي أَلَّفه أبو العلاء بالقياس إلى مؤلفات الفلاسفة الإسلاميين؟ إنه لم يُعرف عنه أنه كان ملخَِّصاً للفلسفة اليونانية على نحو ما صنع الفارابي وغيره من جماعة الفلاسفة المسلمين، وهو أيضاً لم يعرف عنه أنه نمَّى مذهباً من مذاهب الفلسفة اليونانية ، ولهذا كان من الخطأ أن يجعل بعض النقاد أبا العلاء فيلسوفاً بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة، وهو لم يُلخِّص الفلسفة اليونانية فضلاً عن أن يكون من المنمِّيِن لها ولا كان من المتعلَّقين بمذهب من مذاهبها. " (65) وإلى هذا الرأي يميل الأستاذ أمين الخولي في معرض تعليل زهد أبي العلاء؛ فإنه يرى أن الزهد ليس مذهباً عند أبي العلاء ولا اتجاهاً صادراً عن فلسفة معينة لديه، وأن أبا العلاء لم يكن زاهداً، بل محروماً مترفعاً.(66)

وعلى الجانب الآخر يرى طه حسين أن اللزوميات فن جديد في الشعر العربي، وأن أبا العلاء " أحدث فناً في الشعر لم يعرفه الناس من قبل، وهو الشعر الفلسفي. "(67)

 

والحقُّ إن من يدرس نتاج أبي العلاء نثراً وشعراً يجد أنه في آرائه ومعتقداته مُطلعٌ على الفلسفات بكلِّ أشكالها : اليونانية والهندية والفارسية ، ولكنه لم يتبنَ فلســفة واحدة بذاتها، وإن ظهر تأثره بجزئيات انتقائية من هنا وهناك منها. كما أنه مُطّلعٌ على ما كان عند الفلاسفة المسلمين ، وهو رجل واسع التعمق بالأديان والمذاهب والفِرَق الدينية التي امتلأ بها عصره ، فقرأ وناقش وأدلى برأيه وبسط رؤيته في كلِّ نتاجه، وخاصة في الطور الثاني من حياته، طور اللزوميات، والتي ألزم نفسه فيها أن تكون القافية على حرفين لا على حرف واحد.(68) ومن ثَمَّ فهو شاعر لامس الفلسفة في خواطره ، وإن أفكاره ونتاجه الشعري نتاج تأمل فلسفي، يتناول القضايا الكونية والإنسانية وإلى هذا الرأي أميل.

يقول يوحنا قمير: " اللزوميات..هي بَعدُ فنٌّ جديدٌ في الفكر العربي، فنٌّ الشعر الفلسفي... هي صدى حالات نفسيِّة انتابت صاحبها، فكوّنت فلسفة اصطبغت بالشّعر، وكثرت فيها المراجعات..إنها قبل كلّ شيء صدى روح فكّرت كثيرا، وشعرت كثيراً، وشقيت كثيراً. " (69)ولعله من الشعراء القلائل في أدبنا العربي الذي يكاد ديوانه على ضخامته يخلو من نفاق المديح وسخف الهجاء وبذاءة الشتائم . وربما ارتفع أبو العلاء بالأدب العربي إلى مصاف الآداب العالمية ، فما مِنْ دارسٍ للكوميديا الإلهية لدانتي(ت 1321م)،(70)               إلا وربط بينها وبين رسالة الغفران،(71) وما مِنْ باحث قرأ فلسفــة آرثر شوبنهور(72) وسورن كيركجور(73) التشاؤمية إلا وسأل نفسه، عن مدى التشابه بينــهم، ويتوقف طه حسين عند هذه المسألة، فيقول:(74) " أبو العلاء فذّ يُعَدُّ من هذه القلة الضئيلة التي يمتاز بها الأدب العالمي الرفيع على اختلاف العصور.. فإذا فخر الأدب اليوناني القديم بأبيقور(75)وإذا فخر الأدب اللاتيني القديم بلوكريس (76)وإذا فخرت الحضارة الأوروبية الحديثة بأُدبائها وفلاسفتها المتشائمين، فمن حق الأدب العربي أن يفخر بأبي العلاء، فليس أبو العلاء أقل من أحدٍ من هؤلاء الممتازين خطراً ولا أهون منهم شأناً، ولعله أن يمتاز منهم بفنون من الأدب والعلم لم يظفروا بها ولم يشاركوا فيها. فقد كان أبو العلاء فيلسوفاً عميق الفلسفة، صادق النظر في أمور الحياة والأحياء. وكان أبو العلاء شاعراً، رفيع الشعر." ويرى عبد الله العلايلي أن أبا العلاء كان يقصد قصداً (77)

بث الريب والشكوك.. يغري بها الأحياء بالتساؤل والنظر بشيءٍ آخر، بالهرب من أنفسهم [ بالاغتراب] (78)على ما اجتمع فيها من قبليات ورواسب سابقة من آراء لرغبات".

وقد نعثر في أدبه على آراء جريئة قلقة سبقـت عصره من نحو الرفق بالحيوان، وحوار الأديان ، والعصيان المدني، والاغتراب النفسي. ويذهـب زكي المحاسني لاعـــتباره ناقداً إصلاحياً لأنه: " بصّر الـــناس بحقوقهم الهضيمة، ووقف للأمراء والحكّام بمرصاد النقد. وكان في دهر العربية سبَّاقاً إلى فتح عين الأمـــة وتبصيرها بحقوقها.وقال قبل(جماعة حقوق الإنسان) "في الزمن القريب الأمراء للأُمة أجراءُ"..فكان نقده ضرباً من ضروب الثورات الفكرية التي تتقدم السلاح والدماء".(79)

واستكمالاً لهذا الموقف من البحث؛ فإن شوقي ضيف عاد لتقبل أبي العلاء فيلسوفاً من باب التجوز وإن غلبت عليه صفة المفكر الحر والأديب المتشائم الساخط حيث يقول: " الحقُّ أن أبا العلاء ليس فيلسوفاً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة إلا إذا توسعنا في معناها وجعلنا كلّ شخص يفكر تفكيراً حراً فيلسوفاً أي مُحباً للحكمة، آخذاً بقوانين العقل غير متقيد بُعرْف الناس ولا بما يعتنقون من آراء وأفكار. إذن يكون أبو العلاء فيلسوفاً " .(80)    وأراني أميل الى الأخذ بهذا الرأي على نحو ما أوضح آتياً :

إنَّ قضية ( قلق الحياة ) فرضت علينا تحديد انتماء أبي العلاء، وطرحت التساؤلات الآتية، فضلاً عن السؤال الأساس في مستهل منعطف البحث، وهو [هل أبو العلاء شاعر أو فيلسوف؟!] ثم:

هل من الأنسب وضعه ضمن كوكبة الشعراء والأدباء: المتنبي، وأبي تمام، وأبي العتاهية، وأبي حيان التوحيدي؟! أو هل نضمّه إلى نادي الفلاسفة رفيقاً للفارابي، وابن سينا، وابن رشد؟!.

أو هل هو في منزلةٍ بين المنزلتين؟!، فنطلق عليه لقب ( الشاعر الفلسفي)(81) ومنذ أن أطلق على نفسه ( رهين المحبسين) جعل أبو العلاء المعري حياته وعطاءه موقفاً وقضية واتخذ شعار: (العصيان المدني القَلِق)،(82) وتجلّت مواقفه من الحياة والكون والإنسان ناقداً عابساً قلقاً، وكان صوت أبي العلاء المكتمل النبرات والنغمات.. نشيد الوجود والحيرة والنغمة والعدم أطلقه وهو أنضج ما يكون تجربة.. وأعمق ما أوغل حسّاً وتأملاً(83). وصرخ في وجوه البشر: (بني آدم بئس المعاشر أنتمُ..).(84) واستنهض الناس أنْ ( أفيقوا. أفيقوا ياغواة...). (85)

في اعتزاله النوعي ، وحرمانه الطوعي أمّه الغواة...، ولم يتجنبوه طلباً لفنٍّ ملتزمٍ بما لا يلزم، وطالما عاب على أدعياء الأدب كذبهم، إذ يقول:

           (وما أَدَّب الأقوامَ، في كلِّ بلدةٍ   إلى المينْ، إلا مَعشَرٌ أدباءُ)(86)

   وكانت لأبي العلاء في مجال الفكر والفلسفة جولة، فقدَّم العقل القاصر على النقل المتواتر، أي قدم المعقول على المنقول. وجعل العقل إماماً هادياً لا إمام سواه.. فاحتار، وشكَّ، وتشاءَم، وتردد، ويئس، وبئسَ، وحاول فك لغز الحياة فعجز. والتزم الحرمان الطوعي في المأكل والتناسل والزواج ، وعمم يأسه من الوجود، ورأى الفناء خلاصاً من الآثام (87).

وصاحبنا لم يدرس قضايا الكون والإنسان والحياة دراسة عقلية ترتكز على مفاهيم عقلية ترتكز على مفاهيم علمية ثابتة مستقرة، ولم يُعنَ في تفسير المعرفة تفسيراًعقلياً وتحليلها تحليلاً منطقياً والبرهنة عليها، فهو لم يصنف كتاباً بأسلوب تقريري لحلِّ مشاكل الإنسان متناسقَ الترتيب شمولي المنهج، على الرغم من أنه عالج بعض المظاهر بحيرةٍ وترددٍ... فقصّر عن اللحاق بركب الفلاسفة.

ولكن يشفع لأبي العلاء تقصيره في هذا الجانب أنه شاعر أفرغ آراءه الفلسفية في تعبير شعريّ. والتعبير الشعريّ يرتكز أصلاً على العاطفة الجياشة، والخيال الطليق، قبل العقل المستنير. ومن طبيعة الشعر أنه يرفض الدِّقة تفادياً للجفاف، ويبتعد عن التسلسل حرصاً على الانطلاق. ومن هنا كان لأبي العلاء العذر في تردده وحيرته.. ذلك أنه عاش أزمات نفسية وروحية صعبة ومتوالية بسبب عاهات العمى السرمدي، والوجه المجدور، والجسد النحيف، والواقع الاجتماعي والسياسي المحبط.

ولم يكن أمامَ هذا البائس غير الشعرية العربية، ورمزية الباطنية الحرفية التي التبست بالشعوذة في عصره ليعبِّر  بواسطتها عن آرائه الفلسفية الضبابية

وكان حقاً شاعراً هائماً على دوح الشاعرية الميّادة؛ يفكر تفكيراً أدبياً حُراً كما يرى ( شوقي ضيف) ، فاستحق أنْ ينزل بين المنزلتين، ويسمى الشاعر الفيلسوف.. وتفلتُ منه أبيات خالدات، ما زال لها رجع الصدى في أفق الإنسانية وعبقرية مجاز اللغة العربية ، ومنها :

ولو أني حُبيتُ الخُـــــلد فرداً

 

لمــا أحببت في الخلد انفرادا

فلا هطلت علّي ولا بأرضــــي

 

سحــائب ليس تنتظم البـلادا

و:

أبكَتْ تلكم الحمامـــة أم غَنّـ

 

ت على فرعِ غصنـــها الميادِ

صاحِ هذي قبورنا تمـلأ الرَّحـ

 

ـبَ فأين القبور من عهد عاد؟

خفف الوطء ما أظنُّ أديــم الـ

 

أرضِ إلاّ مـــن هذه الأجساد

و:

خلق الناس للبقاء فضــــلت

 

أمة يحسبونهم للـــــنفاد

إنما ينقلون من دار أعمــــا

 

لٍ إلى دار شقوة أو رشـــاد
 

:و:

ضَحِكنا وكان الضَّحك منّـا سفاهةً

 

وحُقّ لسُكّانِ البَسيطةِ أن يبـكوا

يُحطِّمنا ريْبُ الزّمان كــــأننا

 

زجاج ولكن لا يُعادُ لَهُ سـَـبكُ

و:

ليلتي هذه عروس مــن الزنـ

 

ج عليها قلائد من جمـــان
 

 

رابعاً: مظاهر القلق (عرض وتحليل)

تناثرت في أدب أبي العلاء رؤىً من مباحث علم الكلام والفلسفات اليونانية والفارسية والهندوسية واللاهوتية والدهرية شملت المادة والزمان والمكان وتناهي الأبعاد والرياضيات العقلية والإلاهيات ، ووحدانية الله، ومسائل القَدر من الجبر والاختيار، وقضايا الغيب من الموت وما بعد الموت من متعلقاته في البرزخ وخلود الروح ، والجن والملائكة والنبوات وتناسخ الأرواح وسواها من معضلات الوجود التي يجيب عنها الفلاسفة في فلسفتهم والأنبياء والرسل في دياناتهم.

وكانت هذه الموضوعات مدار بحث ودراسات عديدة عند المحدثين أغْرَتْ بعضهم بالنظر إلى أبي العلاء كصاحب فلسفة لا يعيبه أن يقارن بغيره من الفلاسفة.

ولكنَّ بحثنا وهو يحاول أن يُلقي الضوء على مظاهر قلق الحياة عند أبي العلاء لا يُغفل الإشارة إلى ما هو آت:

1.  إنَّ آراء أبي العلاء في الحياة والإنسان هي رؤىً وأخيلةُ شاعرٍ تعبِّر عن وجدانه، وحالات نفسيته المتغيّرة القلقة، والتي قد تبدو في أحيانٍ كثيرة متناقضة، أو على الأَقل حائرة بين اليقين والشّك.

2. إن قلق الحياة عند أبي العلاء وآراءه في الزمان والمكان والأحياء لوحات فنيّة مترابطة كوّنت التجربة الشعرية بأجزائها، وهي صور اختزلت أو أبرزت أو طمست أو حوّلت مواقف أبي العلاء كما يبدو قلقاً في زهده ومأكله وملبسه ومسكنه وتقشفه، وفي كلِّ جوانب حياته، وهي وثيقة الصلة بموقفه من المرأة والنسل والشك في قيمة الحياة.

3. إنه من التعسف في مجال الدراسات الأدبية واللغوية أن يستخلص الباحث من شعر أبي العلاء وأدبه وثائق فلسفية وفكرية تؤسس لقواعد كليّة لنهج مستنير في الحياة، وتتخذ حكمة ونبراساً للهداية والاقتداء.

ومن هنا سيكون عرضنا لمشاهد قلق الحياة عند أبي العلاء شمولياً تتجاور فيه الصور وتتداخل في سياقاتها لِما علّلناه من دواعي الترابط والومضات الارتجاعية(88) والتداخل بين محاوره الفكرية من جهة، وصور إبداعاتها اللغويّة والفنيّة عند أبي العلاء من جهة أُخرى.

لقد أنفق أبو العلاء حياته في تلقي الآلام والمصائب فكلما حاول الخروج من مصيبة والتغلب عليها وقع في مصيبة أفدح منها حتى انتهت المعركة بيأس أبي العلاء - الشاعر الفلسفي- من قدرته على العيش كالمبصرين مقبلاً على الحياة وشهواتها ومتاعها كما كان يطمح في صباه ، فألقى سلاحه، وانصرفت نفسه عن الحياة فكرهها مكاناً وزماناً وأُناسي ظاهراً وباطناً.

لقد سبق أَنْ أوضحنا في مقدمة البحث أنَّ القلق حالة انفعالية تتميز بالخوف مما قد يحدث، وأنَّ منه القلق المحمود السّوي عندما يأتي استجابة لمواقف محددة كالقلق عند انتظار حدث لموعد أو زمان أو مناسبة في حياة الإنسان العاطفية والروحية والمعاشية، من نحو انتظار غائب ، أو قلق انحباس المطر مثلاً. وقد يرتقي هذا النوع إلى قلق الانشغال بالهمِّ العام للأفراد والجماعات على نحو ما سبق بيانه في موضعه .

ولكننا في منعطف هذا البحث نرى أنَّ القلق عند أبي العلاء هو من النوع الثاني، أي القلق المَرضي السوداوي.

نظر أبو العلاء إلى الحياة والأحياء نظرة تشاؤم وحيرة وشك... واتّصف قلقه الدائم بالتوتر الشديد والسخط والشكوى المرّة والتناقض. وألزم نفسه المتعالية على جراحاتها بالانعزال النوعي، والحرمان الطوعي واليأس المطبق، وكلّها استجابات مفرطة لا مُسَوِّغَ لها من الناحية الموضوعية، ولا تتوافق مع الفطرة البشرية، ولا مع عُرْف سواد الناس في بلدته، ولا بما يعتنقون من آراء وأفكار.

ولقد سبق لنا الزعم أنَّ قلق الحياة ورفضها هو مذهب أبي العلاء، وإن كان صادقاً فيما وصف نفسه، إذ يقول: " إني بالحياة لَبَرِمٌ "، " وما البقاء إلاّ طول شقاء، والحياة ظلمة ليس فيها إِيَاة".(89) ويكرر هذا المعنى في صور عديدة، وعلى سبيل المثال؛ فإنَّ البقاء في الحياة مصيبة:(90)

بقائيَ في الدّنيا، عـليَّ، رَزيَّةٌ

 

وهل أنا إلا غـابرٌ مثل ذاهب؟
  

واعتبر أن من يدعو له بطول العمر لا يدعو له بخير وإنما يدعو عليه بشرٍّ: (91)

 دعا ليَ، بالحياةِ أخـو ودادٍ

 

رُويدَك، إنمّا تدعو عَلَيَّا
       

وأولئك الذين يحبون الدنيا ويركنون إليها ويأمنون غوائلها إنما هم مغرورون مشغولون بما يضرهم ولا يفيدهم في شيء،  يقول: (92)

وحبُ الأنفسِ الدّنيا غُرورٌ

 

أقامَ النّاسَ في هَرجٍ ومرَجِ
  

وحب الدنيا والتمسك بأهدابها هو جهل كبير ينبغي تركه ، يقول:

وحبُك هذي الدّارَ أُسّ إمامةٍ

 

لجهِلكَ، والبادي على باطنٍ ستر(93)   

وما مُحبها إلا رجل صَغارٍ وذِلة، أسيرٌ لهذه الحياة الكاذبة، ويقول:(94)

ومَنْ هويَ الدّنيا الكذوبَ، فإنَّه

 

رهينٌ بثَوبَيْ ذِلةٍ وصَغار
 

وتفنن في إضفاء معاني التنفير من المعيشة والبقاء على قيد الحياة، فالعيش عنده مرض والموت هو الدواء الشافي من هذا المرض الوبيل على حد رأيه :(95)

وما العيشُ إلا علةٌ بُرؤهـا الرّدى

 

فَخَلِ سبيلي أنصـرفْ لِطياتي

والحياة حرب ضروس ضد الإنسان لا يضع حداً لأهوالها إلا الموت، ويقول:(96)

والعيشُ حربٌ لم يَضَــعْ أوزارَها

 

إلاّ الحِمــــامُ، وكلنا أوزارُ
 

وهو ذاته مضطر إلى العيش في هذه الدنيا ولذلك يعتبر نفسه أسيراً يتمنى أن يُطلق سراحُهُ ويفك قيدُه بالموت، يقول:(97)

ومن العجائب أنّني عانٍ بها

 

أرجو الَمنيَّة أنْ تفُكّ إساري
 

ويتجلّى قلق الحياة عند أبي العلاء في ذم الدنيا؛ فيصف شرورها وآفاتها؛ فإذا هي عروس خادعة، ووعودها باطلة، يقول:(98)

لحاكِ اللهُ يا دُنيا،خَلوبــــاً

 

فأنتِ الغادةُ البِكرُ العجــوزُ 

وجـدْناكِ الطريقَ الى المنايا

 

وقد طالَ المدى فمتى نـجوزُ؟

سئمْنا مِن أذاكِ، فنجّزينـــا

 

فإنَّ مرُوءة الوعدِ النُّجــوزُ

لكنه،على اعترافه بفساد الدنيا وخداعها،لا يخلي الإنسان من اللوم في الاستسلام لها، بل يعدّ ذلك منه بلاهة وحمقاً، يقول:(99)

نقمتَ على الدنيا ولا ذنب أسـلفَتْ

 

إليكَ، فـأنتَ الظالمُ المتكــذّبُ 

وهَبْها فتاةً،هل عليها جنايـــةٌ

 

بمن هو صَبٌّ في هواها معذّب؟

ويمثل على ذلك بقوله:(100)

لا ذنب للدنيا،فكيفَ نلومهـــا

 

واللوم يلحقني وأهلَ نِحـاسي 

عنبٌ وخمرٌ في الإناء وشاربٌ،

 

فمن الملومُ،أعاصرٌ أم حاسي؟

ورأى أن حياته قد طالت كثيراً، وأنه يرغب التعجيل للوصول إلى الآخرة، والحياة شاقة صعبة مشقة الصوم وصعوبته، فهي عنده صوم دائم. وكما يعقُب العيدُ الصيامَ، ويكون فرحة وسروراً، فكذلك عنده يكون موته يوم فرحة وعيد:(101)

صُمتُ حياتي إلى مَمـــاتي

 

لعلَّ يوم الحِمـــــامِ عيدُ   

و: (102)

أنا صائم طول الحيـــاة وإنما

 

فطري الحِمامُ ويومُ ذاك أُعيِّدُ 

وكم تمنى في الحياة حال الجماد الذي لا يحسُّ ولا يشتهي ليتخلص من مشاعر القهر، وضغط العمى وألم النفس، فحسد الحجر أو لِنَقُل غبط الحجر على كونه حجراً :(103)

عزَّ الذي أعفى الجماد فما تَرى

 

حجراً يَغَصُّ بمأكلٍ أو يَـــشرِقُ

متَعَرّياً في صيفـــه وشِتائِه

 

ما ريعَ قطُّ لملبَسٍ يــــتخرَّق

متجلداً أو خِلتَهُ متبـــــلداً

 

لا دَمعَ فيهِ بفادحٍ يتــــرقرقُ
 

لا حِسَّ يؤلمه فيُـظهِرُ مَجْزعاً

 

إنْ راحَ يضربُ مِلطَسٌ أو مِطرَقُ

لم يغدُ غدوةَ طائرٍ متكـَّــسِّبٍ

 

وافاهُ يَلقَـطُ أجـــدَلٌ أو زُرَّقُ
  

ومنه: (104)

أما الجمـــادُ، فإنّي بِتُّ أغْبِطُهُ

 

إذ ليس يعلمُ إمَّا آدَ أو مُـــــحقا
    

لا يشعر العودُ بالنار التي أَخْذتْ

 

فيه، ولا الأصهبُ الداري إذا سُحـقا
 

ولشدة ما كَرِهَ أبو العلاء حياته في ظلامها. فقد فكَّر بالتخلص منها بالانتحار، وكما فكَّر عميد الأدب العربي بالأمر ذاته،(105) ولكن الخوف من أن يلقى المعري خالقه وقد أجرم بحق نفسه قد منعه من الإقدام على هذا العمل المتهور. يقول عن هذا الأمر : "لو أمنت التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب، حتى أخلص من ضنك الحياة، ولكن أرهب غوائل السبيل".(106)

وذكر مثل هذا في رسالة الغفران(107) فقال: "كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار، ولم أصلح نخلي بإبار" . ويذكر بعد ذلك رأي بعض الحكماء في مخالفة هذا: "وحكمــة الله في حجز الرجل عن الموت لئلا يرغب كلّ من احتدم غضبُهُ في الموت" .(108)

فإذا كان هذا رأي أبي العلاء في حياته فماذا سيكون رأيه في الدنيا التي هي حياة الناس كلهم على الأرض؟ من الطبيعي أن لا يكون رأيه في دنيا الناس بأحسن مما كان رأيه في دنياه الخاصة، وما هي عنده إلاّ مثـال اللؤم والخسة والدناءة، وهي التي أشربت بنيها من البشر من سوء خصالها الشيء الكثير فكانوا كأمهم سوءاً وظلماً وشروراً لا نهاية لها، فلا غرو أن يكون أبو العلاء من أكثر شعراء العربية ذماً للدنيا على كثرة من ذَمُّوها، يقول:(109)

خَسئتِ، ياأُمّنا الدنيا، فأُفًٍّ لنـا

 

بني الخسيسةِ أوباشٌ، أخِسّـــَاء!   

وقد نطقتِ بأصنافِ العظاتِ لنا

 

وأنتِ فـــيما يظنُّ القوم خرسـاء

ويصف الكثير من الناس بأنهم في إقبالهم على الدنيا وجشعهم لتحصيل منافعها كأنهم كلاب تجمعوا على الشّر ونبح بعضهم بعضاً من أجل جيفة،وهي الدنيا جيفة يتقاتلون لأجلها ، ولم يُبَرِّئ نفسه، بل هو أخسّ منهم، والمجرب للناس يذمهم؛ يقول:(110)

كلابٌ تغاوتْ، أو تعاوت ، لجيفةٍ

 

وأحسبني أصبـــحتُ أَلأَمَها كْلـبا 

أبينا سوى غِش الصّدورِ ،وإنما

 

ينالُ ،ثوابَ الله ،أســـــلمُنا قلبا

وأيَّ بني الأيام يَحمَــدُ قائـلٌ

 

ومن جرَّبَ الأقوامَ أوســـعَهُم ثَلْبا

ويتساءَل متعجباً(هل في الزمان سرور؟!) إزاء ما في الدنيا من شرور كثيرة يقول:(111)

تسمى سروراً،جاهلٌ متخــرَّصٌ

 

بفيه البرى!هل في الزمانِ،ســـرورُ ؟

نعم ثَمَّ جزءٌ من ألــوفٍ كثيرةٍ

 

من الخير، والأجزاء، بعدُ شـــرورُ 

ولطالما تمنى أبو العلاء على البشر ألاَّ يكونوا على هذه الأرض وُجِدوا، وأنها كانت خالية منهم ، لأنهم ملؤوها بالشر والظلم فقال:

يا ليتَ آدمَ كان طَلَّق أمهــــم

 

أو كان حرَّمهـــــا عليه ظِهارُ(112)

ولدتهم في غير طهـــرٍ عاركا

 

فلذاك تُفْقَـــــدُ فيهمُ الأطهـارُ

ولكثرة ما في الحياة من شرور ، وما يحتشد في الدنيا من آثام، وما تسببه للأحياء من أحزان وآلام كره أبو العلاء الوجود بأسره، وآثر عليه العدم، وتمنى للوليد ألاَّ يكون وُلد، وللحي أَلاَّ يكون وُجد،

يقول:(113)

فليت وليداً مات ساعة وضعه

 

ولم يرتضــــع من أمه النفساءِ  

يقولُ لها من قبلِ نُطْقِ لسـانه

 

تُفيدين بي أن تُنكـــبي وتسـائي

ورأى أن الكون لا يتخلص من شروره، والناس لا يمكن وضع حد لمعاناتهم إلا بقطع النسل وعدم الإنجاب، واعتبر أن الوالد يجني على أولاده إذ يأتي بهم إلى دنيا العذاب والآلام، ولقد كانوا بمنجاة عن ذلك لو لم يولدوا، وفي ذلك يقول:(114)

على الوُلد يجني والدٌ، وَلَو آنهمْ

 

ولاةٌ، على أمصـــارهم ،خُطباءُ

وزادكَ بُعداً من بَنـيكَ، وزادَهم

 

عليك حقُـــــوداً، أنهم نُجَباء

يرونَ أباً ألقاهُمُ في مـــؤَرَّبٍ

 

من العَقْدِ، ضلَّت حَـــلَّهُ الأُرَباءُ   

*  *      *

النظرة الإجمالية للمشهد الأول من قلق الحياة كما يبدو في نصوص هذه المجموعة يبـدو كالآتي:

قلق الحياة عند أبي العلاء موقف فلسفيّ قوامه بُغض الدنيا والحياة، وإِنَّ الوسيلة الوحيدة إلى النجاة من آلام هذه الحياة هو الموت وقطع النسل ... ولكنه لم يعمد في طرح المسألة على عادة الفلاسفة بأسلوب تقريري مرتب السياق: الألفاظ فيه على قدر المعاني، يرتكز على التعليل المنطقي من مقدمات ونتائج، يخلو من المجازات والمحسنات البيانيَّة.

ولكنَّ أبا العلاء خَلَّقَ الموقف الفلسفي فنيَّاً بأسلوب الأديب الساخط الساخر؛ فحياتنا الدنيا كما نعرفها من خلال مظاهرها فينا، ومن حولنا، وشوقنا للتفاعل معها وشدّة حساسيتنا نحوها، وإقبالنا عليها في تعاقبها في نهارها وليلها وفصولها هي وجودنا المحسوس.

ولكنها عند أبي العلاء من خلال النصوص السابقة: سجن رَزية.. دنيا كذوب.. العيش فيها مرض أو صوم دائم.. هي غادة مُخادعة  وَوعودها كاذبة.. تنطق بالحق.. هي أمنا.. نحبها ونكرهها في آن.. لا ذنب لها فكيف نلومها ؟

هي جيفة وبنو البشر كلاب تجمعوا حولها يذبحون وينهشون.. هي خسيسة وبنو البشر أبناؤها أوباش.. ومن عجبٍ وسخرية أننا نُقبل عليها ونحبها ( تسمّى سروراً جاهلٌ متخرِصٌ ..!) و ( عنبٌ وخمر.. فَمَنْ الملوم؟).

هكذا خلّق الموقف بتصوير خيالي تعانقت فيه الأفكار مع الصور، وتلمَّس أوجه الشبه البعيدة بين الأشياء ( وهبها فتاةً، هل عليها جناية.. ؟ ) ..  و( أعاصرٌ أم حاسي؟)، وأظهر المعنوي في صورة المحسوس، والمحسوس في صورة المعنوي ( كلاب تغاوت، أو تعاوت.. ) .

المنظور إليه واحد: ( الحياة والناس ) .. ولكن الناظر شاعر يعاود النظر؛ فإذا الشعر لديه وليد لحظات نفسية متباينة يبدو فيها أبو العلاء يناقض نفسه، ولا يستقر على رأي.. وهكذا كان رأيه في كلّ ما أبدع من آثار، وخاصة في طوره الثاني.

ومن هنا تعددت وجهات النظر عند الباحثين في هذه المسألة .. فهذه (بنت الشاطئ) تذهب إلى أن أبا العلاء ظلَّ محبِّا للدنيا على عكس ما هو متعارف عليه، تقول: " ... ظلَّ يكابد من ظمإٍ إليها وشغف بها مع إصراره على رفضها... وإلى آخر عمره ظلَّ يئن من عجزه أنْ يقهر في نفسه حبَّ الدنيا، والتماس راحةِ اليأس منها والسلو عنها؛ وإن ظنَّ أنه وطئها بقدميه من لحظة انسحابه إلى محبسه".(115)

   ولنستمع إلى الوجه الآخر من اعترافات أبي العلاء في هذه المسألة ، ولنأخذ في الحسبان أننا أمام متهم كثيراً ما يغيّر إفاداته أمام القضاة.. يقول:           "أحبُّ الدنيا وآلتُها ليستْ فيَّ، وقد يئستُ من بلوغها، واليأسْ مريح، فإلامَ التسَّوف والضلال؟! ". (116)

و:(117)

شَقينا بدنيانا على طول وُدِّها

 

فدونكَ مارسْها حياتَك واشقَها

ولا تُبْدِيَنَّ الزهدَ فيها فكلنـا

 

شهيدٌ بأنَّ القلبَ يُضمِرُ عشقها

و:(118)

أشربتُ حبَّكِ لا يَنفيه عن جسدي
       

 

سوى ثرى لدمــاءِ الإنسِ شرَّابِ

 

و: (119)

تباركتْ ياربَّ العُلا أنتَ صُغْتَها

 

فليتك في أرزائهـــــا لم تُباركِ

 

 

أُعانِقُها عند الوداعِ تَشَبُثـــاً

 

وكيف وداعٌ بين قالٍ وفـــــاركِ

 

    حاول طه حسين أن يربط بين نهج أبي العلاء في حياته وبين أسلوبه في التعبير والتصوير، فقال في هذا الصدد: ".. الاستهانة بأمر الدنيا جعلت أبا العلاء شديد الحرص على الصدق عظيم الحذر من انتحال الزور، كانت حكمته صادقة وفلسفته فطرية.." (120)

   ولكن علي أدهم يناقش هذا الرأي بإضافة معقولة، يقول: " وواضح من رأي الدكتور أنَّ الخيال شديد العلاقة بالكذب وأن أبا العلاء حرص على الصدق فنبذ الخيال، وليس الأمر كذلك، وأرى أن مصدر هذا الوهم هو عدم التفريق بين الحق الفلسفي والحقّ الفني، وليس الخيال هو الكذب، وإنما هو منظار الحقائق، ومصور خفايا النفس، وهو عتاد الشاعر وركنه الركين، وإذا كان الشاعر طائراً فإن الخيال جناحه، وقد يظن أنَّ الخيال كذب، وذلك لأنَّ الفن نفسه قائم على أكذوبة عريقة النسب في الصدق إذ يخلق عالماً غير العالم ويعمره بالموجودات، والأحياء والخيال هو عامل الإنشاء في بناء هذا العالم وخالق أحيائه ومبدع موجوداته. والفن لا يجاري الواقع ولا يحتذيه لا لأنه يجافيه ويتعمد أن يقلب نظامه ويعكس سنته، وإنما لأنه يحاول أن يكمل نقصه ويسد فجواته ويصفيه ويهذبه ".(121) وعلى هذه الصورة من الإبداع كان فن أبي العلاء، ومن هنا تقبلنا تناقضه وحيرته وقلقه بين الشك واليقين.

قلق عزلته النوعية

من الطبيعي أن من كان رأيه في الحياة والأحياء ما علمنا من كراهية ورفض، فلم يجد أمامه إلاّ أن يعتزل الحياة ومخالطة الناس، ويبتعد عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فبعد عودته من بغداد أخبر أهل المعرَّة في رسالة مؤثرة أنه سيعتزل الناس، وقد حاول ذلك بأقصى جهدٍ مستطاع ولكنه أخفق في ذلك إلى حدِّ ما، فمن أين لشخصٍ مثله طبقت شهرته الآفاق من شرق العالم الإسلامي إلى غربه، أنْ يعيش بمفرده، ولو سكن الكهوف أو صعد إلى قمم الجبال، نعم هو اعتزلَ الدنيا وأهلها، ولكنَّ أهلها لم يتركوه بل جاؤوه ينهلون من علمه وأدبه وفكره، ولكنه على كل حال يبقى معتزلاً؛ لأن ما خالط الناس فيه أو لنقل ما خالطه الناس فيه للضرورة لا يُعَدُّ تصالحاً وإقبالاً على الحياة والناس، وسواء أنجح في مسعاه الاعتزالي أم أخفق فالعزلة والتوحد والانفراد هي مذهبه المفضل ورأيه الحصيف الذي لا يرضى عنه بديلاً، ولعلَّ هذا الاعتزال النوعي كان أجلى مظاهر قلق الحياة لديه، قال: " واهرب إلى الفضاء إلا ملبس من شر الجليس ، والله ثاني المنفردين "(122) وأعلن في شعره أنه إذا كان شعار تنوخ أهل قبيلته(واصل) فشعاره هو قَاطعْ:(123)

فِرَّ من هذه البريــــة في الأر

 

ض فــَما غيرُ شرّها لك حاصلْ

فشعاري ( قاطعْ ) وكان شعـاراً

 

لتنوخٍ في سالف الدهر ( واصلْ ) 

والرأي عنده أن من أراد النجاة من مصاعب الحياة فإنه لن يبلغ ذلك إلا بهجر الدنيا وأهلها:(124)

فالرأيُ: هجرانُك الدنيا وساكنَها

 

فأنت، من جَود هذي النفس، منجودُ 

وبالغ في طلب العزلة حتى أرادها حياً وميتاً، فتمنى ألاَّ يشهد الحشر في   الناس:(125)

فيال        فيا ليتني لا أشهدُ الحـشرَ فيهمُ

 

إذا بُعثوا شُـــعثاً رؤوسُهُمُ غُبرا 

وهو لا يريد العزلة عن الناس والمجتمع في الحياة الدنيا فحسب وإنما يريدها حتى في الآخرة لا يريد أن يجتمع إلى أحد، ولا يراه هو أحد ، فطلب أن يدفن بموضع لم يُحفرْ فيه قبر لأحد، وجعل من هذا رتبة لقبره وحسبها من رتبة يعتز بها:(126)

إذا حان يومي فلأوسَّد بموضع

 

من الأرض لم يحْفِر به أحــدٌ قبرا 

و: (127)

يا جَدَثي! حسبُكَ، من رتبـةٍ

 

أنكَ مِن أجــداثِهم مَعزِلا

وَودّ لو مات في صحراء ليس بها إنسان لتتهيأ له هذه العزلة، يقول: (128)

وَدِدْتُ وفــاتيَ في مَهْمَهٍ

 

بهِ لامِعٌ لَيَسَ بالمعُلَــــمِ

أموتُ به واحــداً مفرداً

 

وأُدفن في الأرضِ لم تُظـلَمِ

أحاذرُ أن تجعلوا مضجعي

 

إلى كافرٍ خانَ أو مُسلــم  

وهو ينصح حتى للحيوان أن يعتزل كاعتزاله هو، فقال مخاطباً ورقاءَ، يقول: (129)

وانفـردي في بلدٍ عازبٍ

 

عنا، وعيشي ذات بالٍ رخي  

وهكذا رأى وحدته أنساً واجتماعه بغيره وحشة، يقول:(130)

إذا حضرتْ عندي الجماعةُ أوحشَتْ

 

فما وحدتي إلا صحيفةُ إيناسي

طــــهارة مثلي في التَباعد عنكُمُ

 

وقربكمُ يَجني همومي وأّدْناسي  

   ويظهر أنَّ لدى أبي العلاء استعداداً فطرياً في حبّ العزلة، ولقد لفت نظري إلى هذه اللفتة صاحب كتاب (الأيام) حيث يعقب على قول أبي العلاء:            (أنا وحشيُّ الغريزة إِنسي الولادة)؛(131) وفيما  يروي سيرته الذاتية يقول: " يرى الفتى نفسه إنساناً من الناس ولد كما يولدون، وعاش كما يعيشون، مقسم الوقت والنشاط فيما يقسمون فيه وقتهم ونشاطهم. ولكنه لم يكن يأنس إلى أحد ، ولم يكن يطمئن إلى شيء، قد ضُرب بينه وبين الناس والأشياء حجاب ظاهره الرضا والأمن وباطنه من قِبَلهِ السخط والخوف والقلق واضطراب النفس، في صحراء موحشة لا تحدّها الحدود، ولا تقوم فيها الأعلام، ولا يتبيّن فيها طريقه التي يمكن أن يسلكها ، وغايته التي يمكن أن ينتهي إليها..

   ... كان غريباً في وطنه، وكان غريباً في فرنسا، وكان يرى أن ما يصل إليه من حياة الناس ليس إلاّ ظواهر لا تكاد تغني عنه شيئاً". (132)

لقد كان طه حسين موفقاً غاية التوفيق في تشخيص ظاهرة سوء توافق الكفيف بعامة مع مجتمعه. ولكن إذا قُدِّر لطه حسين أن ينطلق من أسر انطوائيته؛ فإن أبا العلاء ظل يعاني منها تسعة وأربعين عاماً، وكان ذلك باختياره، يقول: (133)

تغيبتُ في منزلي برهـــــــةً

 

ستير العيوبِ فقيدَ الحســــدْ

   على أن العزلة، وإن سترت بعض عيوبه إلاّ أنها لم توفر الطمأنينة، وظل هاجس القلق قائماً، ولم يعدم صلته مع الناس، وعبّر عن هذه الصلة بنقد ساخر تشاؤمي، ومن ذلك قوله:(134)    

تخيرْ، فإما وَحدَةٌ مثـــــلُ ميتةٍ

 

وإما جــليسٌ في الحياة، منافِقُ

وقوله:(135)

  إذا انفرد الفتــــى أُمِنَتْ عليه

 

دنايا ليس يؤمنــــها الخِلاط

فلا كذِبٌ يُقال ولا نــــــميم

 

ولا غَلَطٌ يخــــاف ولا غِلاط

وهكذا ينفي أن في الوحدة وحشة، وحبذها وذكر مزاياها، وعللها تعليلات مختلفة ، نظريةً تارةً، ونفسيةً طوراً .

 

 

قلق الزواج والنسل

وإذا كان الزواج هو السبيل لإقامة الحياة، وكان النسل النتاج الطبيعي الذي تقوم به الحياة، وإذا عرفنا رأي أبي العلاء في الحياة وموقفه من الدنيا، ما قد رأينا وعرفنا ، فكيف كان موقفه من الزواج والنسل؟! هذا ما يحدثنا به عن نفسه بنفسه فيقول:(136)

فإن أنتَ لم تملك وشيك فراقها

 

فعِفَّ، ولا تنكح عواناً ولا بِكرا  

فهو يحض الآخرين على أن يكونوا مثله، فطلب إليهم ألاَّ يقربوا الزواج فهو باب الولوج إلى آلام الدنيا وعناء الحياة. وهو في موقف آخر يطلب مقاومة الغريزة والكف عن الزواج فيقول:(137)

فازجر غريزتَكَ المُسيئةَ، جاهداً

 

واستكفِ أن تُتَخيَّر الأَصهارُ

وجعل الخصاء خيراً من زواج الحرة فكيف بغيرها، فيقول:(138)

   خِصاؤكَ، خيرٌ من زَواجِك حُرّةً

 

فكيفَ إذا أصبحتَ زوجاً لمُومِسِ
     

  وإنّ كتاب المهر، فيما التَمَـسْتَه

 

نظيرُ كتابِ الشــاعر المتلمَّس

فلا تُشهدنْ فيهِ الشهودِ، وألقِه
ِ

 

إليه، وعُدْ كالعائر الُمتــشمَّسِ

ومهما يكن رأي أبي العلاء في الزواج، فإنه يرى الأمر الأحزم عدم الإنجاب وقطع النسل، فيقول في الفصول والغايات:(139) " أظعنُ عن الدنيا،وما أترك فيها عِرسـاً عقد زواجك يقتلك كصحيفة الشاعر الجاهلي المتلمس خال طرفة بن العبد(نديمي عمرو بن هند) في القصة المشهورة التى أودت بحياة طرفة ونجاة خاله حيث ألقى بالرسالة في البحر. العائِر(بالهمز) الكلب أو الجواد الذى يتخلى عن صاحبه. المتشمس:الذي لا تنال منه خيراً.

تُأَيَّمُ، ولا ولداً يُيَتَّمُ، وذلك الأمرُ الأحزم، إنما يُترك الإنسان ولده للشقاء، إما ضعيفاً يظلم، وإما قوياً اهتضم، وكلا الرجلين لا يسلم وهو يذكر هذا الحزم في شعره، إذ يتسمح في الزواج لمن خاف العَنَتَ والمأثم، فينصح له ألا ينجب أولاداً:(140)

نصحتك لا تنكح، فإن خفتَ مأثماً

 

فأعرِسْ، ولا تنسلْ فذلــك أحزم 

ويقول في المعنى ذاته:(141)

كَلٌّ على مكروهةٍ مُبْسَــــلُ

 

وحـــــازِمُ الأقوامِ لا يُنْسِلُ

وليست تلك نصيحته للإنسان فحسب، بل إن هديت الورقاء لا تبني وكراً لفراخها كالإنس.

يقول: (142)

إنْ كنتِ يا ورقاءُ مَهْدِيَّة
ً

 

فلا تُبنَِّي الوَكرَ للأفرُخِ

 

ولا تكـوني مثل إنْسيَّةٍ

 

متى يَنُبْها حادثٌ تَصْرُخِ

 

وانفردي في بلدٍ عازب
ٍ

 

عنا،وعيشي ذاتَ بالٍ رخي

وهو يرى أن الطيور لو علمت علمنا بالحياة وطبيعتها التي يسودها الفساد، وعرفت الشَرَّ في الأقوياء وشعرت بالأخطار التي تجتاحها كما تجتاح الإنسان لما اتخذت لأفراخها الأعشاش:(143)

هل تعَلَمُ الطّيرُ الغَوادي علمنا

 

أمْ لا يَصِـحُ لمِثِلها أفكارُ

لو أنّّها شَعَرتْ بما هـو كِائنُ

 

لم تُتْخَذْ لفِراخِها الأوكارُ 

وإذا كان يرى للحيوانات والطيور ألاَّ تلد ولا تنسل فالإنسان العاقل أولى بترك النسل ، فيقول:(144)

دع النّسلَ! إن النّسلَ عُقباه مِيتةٌ

 

ويُهجَرُ طيبُ الراحِ خوفاً من السكر 

وعدَّ النسل ذنباً لا يغتفر، وإذا كان لا بدَّ للإنسان من الزواج فأَحـسن الزوجات مَن تكون عقيماً :(145)

أرى النّسلَ ذَنباً للفتى لا يُقــالهُ

 

فلا تنكحنَّ، الدّهَر، غيرَ عقـــيمِ 

وقد مرَّ بنا قوله في تحميل الوالد مسؤولية جنايته عليه بإنجابه للحياة:(146)

ومن هنا كانت خير النساء العقيم:(147)

فَخَيْرُ نِساءِ العــالمينَ عَقيمُها 

 

إذا شِئتَ يوماً، وُصْلةً بقرينَةٍٍ

وهو يرى أن عقم المرأة خيرٌ لها إذ لا يستطيع الموت أن يفجعها بأخذ ولدها، فيقول:(148)

وذاكَ خيرٌ لها لو أُعطيتْ رَشَــدا

 

قد ساءها العُقمُ، لا ضمَّت ولا ولدتْ

شيئاً سِواها، إذا ما اغتالَ واحتشدا 

 

ما يأخذ الموتُ من نفسٍ لمُـــنفردٍ

وقد ألح وكرر في أبيات وقصائد عديدة أن النسل مجلبة للهم، فإذا ما كثر نَسْلُ الأب وأصبح له ثلاثة أولاد فإن عقله يُسلب منه من شدة الهم:(149)

والعَقل مَسلوبٌ من الفارشِ

 

والنّسلُ فَرشٌ لهـمومِ الفَتى

وليس النسل شقاء للأم وهَمّاً للأب وإنما هو شقاء للولد أيضاً، ولو أن ولداً عقَّ أباه لكان يردُّ له عمله في إنجابه إلى هذه الدنيا:(150)

إنْ عَقَّ، فهو على جُرمٍ يكافيهِ

 

جنى أبٌ وَضعَ ابناً للردى غَرضاً

ويقول عن نفسه إنه لو كان كلباً لما هان عليه أن يُلقِِيَ جروه في هذه الحياة، فلا بورك النوع والجنس عنده:(151)

لِجرَوْي، أنْ يَلقى كما لَقيَ الإنسُ

 

لوَ أَنّيَ كَلبٌ، لاعتـــرتني حــمَيةٌ

بأنواعه،لا بُورِكَ النَّوعُ والجنـس

 

أرى الحيَّ جِنساٌ ظلَّ يشَملُ عالمــي

وتفنن في معاني تفضيل العقم وعدم النسل، فما دام الموت هو النهاية فالنسل وتربية الأولاد عبث، فعلى المرء أن يشتغل بما ينفعه لا بالنسل والولادة، يقول:(152)

يَعودُ بنفعَ، لاكشُــــغِلك بالنّســل

 

فدونَكَ شُغلاً ليس هذا ، لعـــلّهُ

هو الضبُّ إذ يُسدي العقوقَ إلى الحِسل  

 

أبوكَ جَنى شــــرّاً عليك، وإنما

*  *      *

وتتمة لما استعرضناه من رأي أبي العلاء في الحياة والعيش، والزواج والنسل فما المتوقع أن يكون موقفه من النصف الثاني الذي تتشكل منه الحياة؟ لنقبل معاً لنستمع إلى رأيه في المرأة الذي لن يكون أحسن حالاً من رأيه في جوانب الحياة  الأخرى. فرأي أبي العلاء في المرأة قبيح  ، وهي عنده سيئة في كل أحوالها، فكرهها ودعا إلى تجنبها فقال: ( إياك والجنب إلى زينب، ولا يغرينك النقاب بما تحت الحِقاب فإن النفس موكلةٌ بالضلال(153)) وتحدّث في شعره كثيراً عن المرأة كما يراها هو، فالنساء حبالُ غيٍّ وضلال ومضيعةٌ للشرف والحسب، يقول:(154)

بهنّ يضيَّعُ الشرفُ التّـــــليدُ   

 

ألا إنّ النّســـاءَ حبالُ غيٍّ

والنساء عنده مثال ضعف العقل، وهنَّ هَمٌّ وعائق عند قيام الحروب، يقول:(155)

في الحرب عقلُ رجالٍ إن همُ قتلوا

 

وفي الحِجا عقل نسوانٍ لها مَسَكُ   

ويرثي المعري للرجل الذي تكون خِلفته من البنات وعنده أن كلهن متاعب، يقول:(156)

تَبيّنُ في وجــــــوه مُقَسَّماتِ

 

وإن تعُطَ الإناثَ، فأيُ بــؤسٍ

ويلَقيْنَ الخطوبَ مُلــــــوَّمات

 

يُردْنَ بعـــُولةً ويُـرِدْنَ حَلْياً

ولا في غارة متغشَّـــــــمات

 

وَلســــنَ بدافعاتٍ يوم حرْبٍ

فيا للنســــــــوة المتأَََيِّمات!

 

وقد يفقــــدْن أزواجاً كراماً

إذا أمســــــْيَن في المُتَهضِّماتِ

 

يلدْنَ أعــــادياً، ويَكُنَّ عاراً

ويرى موت المرأة والبنت خير لها من زواجها وأنَّ زيارتك قبور الأوانس خير مِن أنْ يصبحن عرائس، يقول:(157)

خيرٌ لها من أن يُقالَ عرائــس

 

إنّ الأوانسَ، أن تَــزورَ قبَورها

وإذا كان هذا شأنهن عنده، فبدء السعادة للمرء أنّه خُلق ذكراً ولم يُخلق امرأة، لكن هل تود جُمادى -هي مؤنثة،أنها رجب- وهو ذكر، يقول:

بدءُ السعادةِ؛ أنْ لم تُخْـــــلَقُ امرأةً

 

فهلُ تَودُّ جمُــادى أنها رجبُ 

وهو يذكر عن فتنتهن ما شاء الله أن يذكر، فهن ظالمات وهن فوارس في الفتنة وهن أعلام غيٍّ وضلال وهذا قوله:(158)

وقَدْ واجَهـْنَنا متظلّمـات

 

أُولاتُ الظُّلـــم، جِئن بشّر ظُلمٍ

لَقِينك بالأسـاورِ معلِمات

 

فوارسُ فـــــتنةٍ، أعلامُ غَيٍّ

وعلى مثل سوء الظن والقبح هذا جاءت آراؤه في تعليمهن وعبادتهن واختلاطهن وحجابهن، ونظام حياتهن حتى انتهى إلى أن خِدرَ العروس المحببة أدهى وأفتك من عرين الأسد: (159)

أدهى وأفتك من عريسة الأسد   

 

خِـدرُ العروس وإن كانت محببةً

ويقول في المعنى ذاته:(160)

كمُعرِّس الآســادِ في الإخدارِ 

 

وأرى العروسَ، تحجّبتْ في خِدْرِها

وقبَّح الزواج والزوجة ، ولو وُفِّق المرء لم يتزوج والمرأة لم تزف :(161)

أو الغـريرةُ لم تُزْفَفْ إلى رُجل  

 

لو وُفِّقَ المرءُ لم يَبَهشْ إلى امرأةٍ

 

 

خامساً: نظرات إجمالية وخاتمة

تلك نماذج من مشاهد قلق الحياة عند أبي العلاء ، شملت الزمان والمكان والناس من حوله، صوّرتها نفثات شاعرٍ مأزوم وقلِق متشائم سوداوي المزاج، أخضع عطاء عبقريته اللغوية في بيانها وبلاغتها وبديعها ونحوها وصرفها إصراراً على مطلق المخالفة لأعراف مستقرة في الفن. أو فيما عليه حياة أهل بلدته من عادات وتقاليد، وحتى فيما يعتنقون من مبادئ وأفكار.

وبقيت مسألة حتى تكتمل المشاهد.. ألا وهي: إلى أيِّ مدىً كان أبو العلاء صادقاً ومترجماً لِما أكثر تكراره في أشعاره ورسائله في سلوكه الشخصي وتطبيقه العملي؟ أوَ كان من الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؟!

أقول : منذ عاد من رحلته المشؤومة من بغداد اعتزل أبو العلاء الناس والحياة، وألزم نفسه بأنواع المجاهدات والحرمان وضيّق على نفسه ما أُبيح من طيبات وشهوات..

ولنصغِ إليه يحدثنا بالقول: " انسك، وفي مشيك فسك_ [امشِ هوناً] _ فعل جائعٍ، وجَد فترك لا مضطراً أكلَّ فأبرك ، وأعان الله رجلاً كالعود الهرم لا حلب عنده ولا طلب"(162). ويأمر بالارتياح إلى الزهد وأصحابه إذا كان اللاهي لا يرتاح إليهما، يقول:(163)

إذا فاتِكُ القـــْومِ لم يْرتَحِ

 

إلى النُّســـُك ارْتحْ، وأصحابِهِ

لا نعرف أن أبا العلاء جالس أحداً على مائدة ، ولا نعرف أن أحداً رآه يتناول طعامه فقد كان؛ يأوي إلى نفقٍ في بيته لا يأكل فيه إلا ما يقيم الأوَد يبقيه على قيد الحياة. فقد اقتصر في طعامه على النبات فحسب بل اقتصر من النبات على نوعين بسيطين منهما هما العدس والتين وقد نص على ذلك.

فإنْ أتتـــني حلاوة فَبَلَسْ

يُقنعني بُلْسُنٌ يُـــمارَسُ لي

فقال: (164)

وكان لباسه غليظ الثياب من القطن ، وفراشُهُ اللبد في الشتاء، وحُصرُ البردي صيفاً، وكان يأخذ نفسه بأشق الشدة وأعنفها، يؤلم نفسه ألما شديداً ليروضها ويطوعها لإرادته الجبارة، ويكلفها ما لا يستطيع معه صبراً، فربما اغتسل في مرِّ الشتاء بالماء البارد؛ وهذا كلامه يشهد بذلك، يقول:(165)

وذاك جهادُ مثلي والربـــاط

 

أُجاهـــدُ بالطَّهـارة حينَ أشتو

حَميمَ الماءِ، فاقدُمْ يا شُــباط

 

مضــى كانونُ ما اسَتعملتُ فيه

يكونُ لهنَّ بالصّيف ارِتــباط

 

تشـابهُ ،أنفُسَ الحشـراتِ، نفسي

فما هَبّ الجِعادُ ولا السَّــَباطُ

 

لــــقد رَقَد المَعاشِرُ في ثَراهُمْ

وقد أقنعه أيضاً ستره ودفؤه، وشربه بالمشارب الخزفية الخشنة دون الأواني الزجاجية، وقنع من المركوب بالسير على قدميه إذا ما دعته إلى السير حاجة، يقول:(166)

من لباسٍ راقَ العُيــونَ وفرْش

 

مقنعِي، من الزّمانِ، سِـتري ودفئي

شِ، فأغنى عن مُحْكماتٍ بخرش

 

قد شربتُ المياهَ بالخَزَفِ الوَخـــ

قَدمي عن رُكوبِ دُهــمٍ وُبرْش

 

وتَغَنّيتُ في الأمور، فَنـــــابتْ

وهو يرى غناه في طمره الذي يستره، و تقوى الله هي كنزه وماله، فيقول:(167)

مولاي كنـزي، ووِرد الموتِ موعودي
 

 

قوتي غنايَ، وطِمري ساتري،وتُقى

إلاّ وسَيِّئُ طبعـي قائــــلٌ :عودي

 

والنفسُ أمّارةٌ بالسوءِ ما اجترمتْ

وقد ترك أعمال الدنيا؛ فهو لا يحفر بئراً ولا يعرش نخلاً، فهاهو يعبر عن   ذلك:(168)

يا، ومـا تَبْقَى يدُ العِـارِشِ 

 

لا أعرشُ الجَفَر، ولا النخلَ في الدّنـ

أريدُ إبقاءً على الــدارِش

 

فاجَعـــــلْ حِذائي خشباً،إننــي

وقد حرَّم على نفسه الحيوان ومنتجاته، وإذا نظرنا إلى النسك والزهد فسنجد أبا العلاء في هذا المجال يكره الذبح والدم، إذ يقول ناثراً:" إذا غمس القوم أيديهم في الدم فاغمس يدك في ماء الغدير".(169)ويدعو الإنسان إلى الاكتفاء بالنبات يتغذى به، فالإنسان يكفيه الزيت يأتدم به، فهذا أفضل من إراقة الدم، والتسبب في ألم الذبح للحيوان، فيقول:(170)

دمٌ ولا مَسَّ روحاً، إذ جَرى ألمُ  له

 

يكفيك ،أُدْماً، سليطٌ ما أريق

وهو ينهى عن إرهاف المدى لذبح الحيوان نهيَهُ عن سل السيف للأقران:(171)

 

ولا تَشْهَرْ على قِــرْنٍ صقيلا

 

ولا تُرْهِف مُدىً لعبيطِ نحـــضٍ

ويعلن بحسه المرهف ونفسه الوادعة المسالمة أن على الإنسان ألا يسل سيفاً طلباً للمعيشة قائلاً:(172)

بيوَم ضِرابٍ، او بيَــومٍ طعان

 

ولا تَطلُباها من سِنانٍ وصــارِمِ

وهكذا أمِنَ الحيوان والوحش والطير والسمك في البحار في مذهب أبي العلاء، فقد نهى عن أكل السمك كنهيه عن أكل اللحم عامة:(173)

ولا تبغِ قوتاً من غريض الذبائح

 

فلاْ تأكُلنْ ما أخرجَ الماءُ ظالماً

بما وضعتْ، فالظّلم شرُّ القبائحِ

 

ولا تفجعَنَّ الطّيرَ، وهيَ غوافلٌ

ولم يقف التحريم عند ذبحها، بل رأى أبو علاء المعري أن الحيوان إنما يعمل لنفسه فما خلقت الخيل إلا لتركض في حاجاتها، يقول:(174)

إلا لِيَرْكُضَ في حاجاتِه،الفرَس

 

لم تُخْلَقِ الخيلُ من غُرًّ ومُصْمَتَةٍ

والنحل ما جمعت العسل إلا لصغارها لا لتتكرم به على الأَكلةِ من بني آدم:(175)

ولا جَمعته للندى والمنائحِ

 

فما أحرزَته كي يكون لـــغيرها

وهكذا نهى عن لبن الحيوان ومشتقاته إذ قال: إن لبن الأمهات جُعل ليكون لصغارها وليس للنساء الغواني ، يقول:(176)

لأطفالها، دون الغواني الصّرائحِ

 

وأبيضَ أُمّاتٍ أرادت صريحـه

كما نهى عن سلب ما أودعته الطيور من بيض في أعشاشها،يقول:(177)

فمالك أيّها الإنسانُ بِضنَه

 

فلا تأخذْ ودائعَ ذاتِ ريشٍ

وقد أشفق على الحيوان من الضرب، وطلب من الإنسان الترفق بهذا الأعجم المسكين:(178)

لا وِزْرَ يحْمِلُهُ، كـوزْرِ الضّاربِ

 

يا ضاربَ العَوْدِ البطيءِ، وظهرُهُ

في ظـــالمينَ: أباعدٍ وأقاربِ

 

أُرْفُق به، فـشهِدتُ أنّك ظالـمٌ

بل لم تقف شفقته عند المستأنس من الحيوان إنما تجاوزته إلى الوحش والهوام فنهى عن طرد الوحش نفسه:(179)

مطْـرودُ في الدنيا، ولا الطارد

 

لاتطرُدِ الوحشَ، فما يلبثُ الـ

بعد هذه الجولات في مظاهرالقلق عند أبي العلاء نعود الى نقطة البداية كما قررها هو بنفسه  حيث يقول : ( إني بالحياة لَبَرِمٌ 00 وما البقاء إلاّ  طول شقاء وظلمة )..

عممّ تشاؤمه المطلق للحياة في خطابه للدنيا ، مكنَّياً بـ (أُمّ دَفْر) للرائحة النتنة كجامع بينهما ، فقال ساخرا :(180)

منكِ الاضاعةُ والتفريطُ والسَّرَفُ

 

يا أمَّ دَفْر لحاكِ الله والـــــدةً

لكنّكِ الأُّم هل لي عنكِ مُنْصَـَرف؟

 

لو أنكِ العِرسُ أوقعتُ الطلاق بها

 

وفي موقف آخر يبدو متناقضا فيما تقدم،فيعترف بأنه لا يستطيع طلاق الدنيا،وإنّما هي طلقته فيقول:(181)

ولســــــتُ بأوّلِ مَنْ طُلقِّا

 

فما طُلِّقَتْ هي بَــــل طلَّقَتْ

ولهذا كره الحياة الدنيا بعد أن طلّقته وأعجزه اللحاق بأهلها من ذوي الصحة والبأس والنعيم والترف ..وظل على موقفه قلِقاً كارهاً للدنيا وأهلها . وظلّت استجاباته مفرطة ، وبالغ في تصويرها فلنستمع اليه:(182)

 

أصاحِ هــي الدنيا تُشابِهُ ميِّتاً

 

ونحنُ حواليها الكلابُ النوابـحُ

ويقول : (183)

وأحِلفُ ، ما الدنيا بدارِ كرامــةٍ

 

ولا عُمِرَتْ من أهلــــها بكريم

 

وما صحَّ ودُّ الخِلِّ فيها، وإنّمــا

 

تَغُرُّ بودٍّ ، في الحياة، ســــقيم

 

وجدتُ بني الدنيا، لدى كلِّ موطنٍ

 

يعدّون فيها شِقوةً كنعيـــــم

 

يَزيدُك فقراً، كلمــا ازددتَ ثروةً

 

فتُلفى غنيّاً في ثيابِ عديــــم

ويساعدنا علم نفس اللاشعور على تفهم ظاهرة القلق عند أبي العلاء ، يقول صاحب كتاب (علم النفس والأدب) (184): " إنَّ الحرمان والألم ينشطان الموهبة الفنية، فبوساطة الإبداع الفني يعوض الفنان ما حرمته منه الحياة ... إنَّ فقدان التلاؤم والارتواء إزاء العالم الخارجي يولد الانطوائية التى تجعل صاحبها يبني لنفسه عالما خاصا أغنى بكثير من الحياة الداخلية  لكل إنسان . وما ينبغي أن يتأذى من هذا الكلام أولئك الذين يرون أن نقطة البداية في الفن إنّما هي الغنى الداخلي ، فهذا الغنى الداخلي إنّما هو نتيجة الفقر الخارجي . ورب فنان ممتاز تأفل ملكاته الفنية متى أصبح في يسر ودعة ورخاء ، أو متى شفاه                        التحليل النفسي من اضطرابات روحه وصالحه مع العالم الخارجي . إن الأحلام والتصعيد الديني والعصاب النفسي ، كل ذلك إنما هو طرق تسلكها الرغبات الغريزية المكبوتة في اللاشعور لترتوي ارتواء رمزياًٍ أو مصَّعداً ". ويعرّف التصعيد انه تصريف للطاقة الغريزية نحو غايات اذا نظرنا اليها نظرة سطحية رأيناها غير ذات علاقة باتجاه الغريزة المُصَعَّدة ، ولكنها في حقيقة الأمر تنبع من هذه الغريزة رأساٍ في هروب تحريري أو ارتواء تعويضي . (185)

 لقد رهن أبو العلاء نفسه في سجونه الثلاثة (...أراني في الثلاثة من سجونـــي ...) من باب الترفع والاستعلاء لإثبات قدرته على المواجهة ، وعلى تجاوز الواقع ، تعويضاً لتحقيق التوازن النفسي لديه .ولم تكن عزلته عزلة مُجدِبة بل كانت عزلة مُنتجة ، لأنه هكذا أرادها أن تؤدي وظيفة ردّ الاعتبار ولفت الأنظار، وكانت –بلغة علم النفس-حيلة دفاعية على أمل إعادة التوازن النفسي الذي اختل بسبب إحساس المعري بفقدان أهمية الذات التى قُزِّمتْ، وأُهينتْ مِن جراء تعالي ذات الآخر عليها.

ومن هنا فمهما تعددت وجهات النظر في تفسير قلقه ، فإنها تُجمع على أنه أَبدع فناً جديداً أثبت فيه قدرته على التحدي ، فالعلايلي مثلاً يرى أنَّ من عاداته أن يعمد إلى رمزية الباطنية الحروفية(186) متوارياً خلف جناسها وكناياتها لتظل المعاني التى يريدها مشرّعة على أكثر من نافذة من نوافذ الرؤى.

وقوله:

لا يَــجَزَعَنَّ من المنية عاقِلٌ

فالنَّعشُ من نُعِشَ الفتى أنْ يَعْثَرا

 

والعيْشُ من عَشِيَ البصيرُ، أَصابَه

قلبٌ وإسْكانٌ ، فسمِّ  لتدثُرا (187)

وإذا أراد أن يخبرك أن الشَّر طبع أصيل في الإنسان ، وأنَّ صُنع الخير عنده تكلُّف يقول:

كما تعذَّر في الأسمـــاء فَعلُول(188)   

مفعولُ خيرِكَ في الأفعالِ مُفْتَقــدٌ

 

وباحث آخر يرى أن البديع في (اللزوميات) كان رمزاً يحمل دلالات لرفض الواقع وإنكاره: " فالطباق يرمز الى ما نشاهده في الحياة من تناقض ، والجناس لِما نجده من تشابه في المظهر واختلاف في الجوهر ، والاستعارة لِما نجده من محاولات للتوفيق بين أنا الإنسان وغيريّته، والكناية من باب الحذر من الخطأ ، والمجاز لتأكيد الوحدة المرجوة للكون بين إنسه وأشيائه ". (189)

ولهذا لم يكتفِ أبو العلاء بالمحابس الثلاثة التي سجن نفسه بها، وابتنى من (اللزوميات) محبساً رابعاً وضع فيه نفسه أمام جبر لا خيار فيه فأحدث أسلوباً جديداً في الشعر العربي، لم يعرفه من قبلُ حصرياً، وإبداعاً فنيّاً جاء متحصِّلاً من فرط الجهد في البحث والغوص العميق على المفردات والمعاني لا يخلو من تعقيد شديد وعبث لغوي أحياناً يبتعد عن الفن والطبع.. وكلُّ ذلك من أجل التعويض وردّ الاعتبار والانتقال من دائرة الظلَّ إلى دائرة الضوء ليصدق فيه قوله:(190)

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائـــل

وإِني وإنْ كنتُ الأخير زمانُـه

ولكي يتخلص من الاتهام بالتعالي ، قال :(191)

 

لو كان كلُّ بني حواء يشبــهني

فبئس ما ولدتْ في الخَلْق حـواءُ

 

بُعدي من الناس برءٌ من سَقامِهمُ

وقربُهمُ،للحِجا والديـــنِ، أدواءُ

و:(192)

بنى الدهر مهلا إن ذممتُ فِعالكم

فإني بنفسـي، لا مـحالة أبــدأ

 

متى يَتَقَضَّى الوقُت ، والله قــادر

فنسكُنُ في هذا التراب ونهــدأ

 

 

 

 

أهم المصادر والمراجع

§        القرآن الكريم

§        أدهم، علي : بين الفلسفة والأدب (القاهرة : دار المعارف ،1978)

§        الجوزية ، ابن قيم : تهذيب مدارج السالكين لابن الجوزية ، تحقيق عبد المنعم صالح العزي (دبي/الامارات : دار قتيبة، 1990)

§        حسين، طه : تجديد ذكرى أبي العلاء (القاهرة : دار المعارف، ط 6، 1963)

: صوت أبي العلاء (القاهرة : دار المعارف ، اقرأ 23/1944)

: مع أبي العلاء في سجنه ( القاهرة: دار المعارف ، 1963)

§        الحموي ، ياقوت بن عبد الله: معجم الأدباء، بإشراف مارغوليوث (القاهرة: البابي الحلبي، 1936)

§        ابن خلدون ، المقدمة، (طبعة دار الكتاب اللبناني )

§        الخولي ، أمين : رأي في أبي العلاء ( القاهرة : طبعة الكتاب ، القاهرة 1963)

§        جويجاتي، رفيق : مواطن الإبداع في لزوميات أبي العلاء (مجلة الفكر العربي، مجلد 4، عدد 25 شباط 1982)

§        الدروبي ، سامي : علم النفس والأدب (القاهرة ، دار المعارف ،ط2 ،1981)

§        شلق، علي: أبو العلاء والضبابية المشرقة (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،1981)

§        صالح، مصطفى: كشاف مصادر أبى العلاء المعري (دمشق: مطبعة العلم، 1978)

§        صليبا ، جميل : المعجم الفلسفي (بيروت : دار الكتاب اللبناني، 1979)

§        ضيف، شوقي : الفن ومذاهبه في الشعر العربي (القاهرة :  دار المعارف ،ط4، 1960)

§        عبد الباقي ، محمد فؤاد : المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم (القاهرة: دار الشعب ، 1971)

§        عبد الرحمن ، عائشة : جديد في رسالة الغفران (بيروت: الكتاب العربي للنشر ، ط1/1972)

§        عبد الحميد ، عرفان : الفلسفة الإسلامية : دراسة ونقد (بغداد دار التربية د.ت )

§        العلايلي ، عبد الله : المعري ذلك المجهول (بيروت : الأهلية للنشر والتوزيع ، 1981)

§        فضل ، صلاح: تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي (القاهرة: مؤسسة شباب الجامعة 1985)

§        القاضي، محمد عبد الحكيم : إتحاف الفضلاء برسائل أبى العلاء ( القاهرة :دار الحديث ، ط1/1989)

§        قمير ، يوحنا : أبو العلاء المعري في لزومياته (بيروت : دار المشرق 1968 )

§                                                              قنيبي ، حامد : القياس اللغوي وتنمية الألفاظ (الرباط : اللسان العربي ، مركز تنسيق التعريب مجلد 38 ، 1993)

: النحت والاختصار في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني ، عدد 43 سنة  1994

§        لجنة إحياء تراث آثار أبي العلاء بإشراف طه حسين، تعريف القدماء بابي العلاء،  الدار القومية القاهرة 1965

§        مجمع اللغة العربية بالقاهرة : المعجم الوسيط (القاهرة : دار المعارف ، 1980)

§        المحاسني ، زكي : أبو العلاء ناقد المجتمع (القاهرة : دار الفكر العربي ، 1947)

§                                                                                                                                                  المعري ، أبو العلاء احمد بن عبد الله : ديوان سقط الزند ، شرح ن. رضا (بيروت : دار مكتبة الحياة، 1978)

رسائل أبي العلاء المعري، تحقيق عبد الكريم خليفة (عمان. منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة، 1976)

: رسالة الغفران ، تحقيق عائشة عبد الرحمن (القاهرة : دار المعارف ، ط5 ، 1969)

: الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ ، نشر محمود حسن زناتي (القاهرة : مطبعة حجازي/أمين هندية ، 1938)

: لزوم ما لا يلزم ، شرح نديم عدي (دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر ، ط2، 1988)

§        الموسوعة العربية العالمية، إعداد هيئة متخصصة، الرياض، 1416هـ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



 

1 . مجمع اللغة العربية بالقاهرة: المعجم الوسيط (القاهرة : دار المعارف ،1980)، مادة (قلق).

 

2 . صليبا، جميل: المعجم الفلسفي (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1979)، 2/200.

 

(3انظر:عبد الخالق أحمد محمد: قلق الموت ( الكويت: عالم المعرفة، عدد 111،1987) أماكن متفرقة  25-33

(4) الحياة (كما في المعجم الوسيط): النمو والبقاء والمنفعة، و(في علم الأحياء): مجموع ما يُشاهد في الحيوانات والنباتات من مميزات تفرق بينها وبين الجمادات، مثل التغذية والنمو والتناسل ونحو ذلك.

 

 (5) عبد الباقي، محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (القاهرة: دار الشعب، 1971 يرد لفظ (الموت) مفرداً (35) مرة، ويرد لفظ (الحياة) مفرداً (71) مرة.

 

(6)     الهروي، عبد الله: كتاب منازل السائرين ( بغداد: مكتبة الشرق الجديد، 1990) ص 92-93.

(7)      اسماعيل، نبيه إبراهيم: من الدراسات النفسية في التراث العربي الإسلامي ( القاهرة: إيتراك للنشر                والتوزيع، 2001) ص 142.

(8)      الهروي، عبد الله: كتاب منازل السائرين ( بغداد: مكتبة الشرق الجديد، 1990) ص 92-93.

 

(9)       المعري، أبو العلاء: الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ، نشر محمود حسن زناتي ( القاهرة: مطبعة حجازي/ أمين هندية 1938) ص 443.

(10)   المصدر نفسه (ص443)،  إِياة ( بكسر الهمزة وفتح الياء آخرها التاء المربوطة)، أي ضوءٌ وحُسن.

(11)   اسكندر ، نجيب: معجم المعاني للمترادف والمتوارد والنقيض ( القاهرة: دار الآفاق العربية، 2001)         ص 356.

(12)  من المعروف عند دارسي تاريخ الأدب العربي أن المَعَرِّي، أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي (المولود بمعرة النعمان على مقربة من مدينة حَلب سنة 363هـ) الملقب بأبي العلاء المعري- أنه شاعر، ولغوي، وفيلسوف عربي. أُصيب في طفولته بالجُدري فذهب بصره، ولكنه ظل يتمتع بصحة عقلية سليمة في حياة امتدت ستة وثمانين عاماً . كان قصير القامة، نحيف الجسم، مشوّه الوجه بالجُدري، وأُقعد في أواخر أيام حياته، ثم مرِضَ مرض الموت الذي لم يمهله أكثر من ثلاثة أيام، وفاضت روحه إلى بارئها في النصف الأول من ربيع الأول سنة 449 هـ. انظر في ترجمته صالح، مصطفى: كشاف مصادر أبي العلاء المعري (دمشق: مطبعة العلم،1978) ص67،79-85، وانظر: تعريف القدماء بأبي العلاء، لجنة إحياء  تراث آثار أبي العلاء بإشراف طه حسين، الدار القومية، القاهرة 1965.

(13)        ضيف، شوقي: الفن ومذاهبه في الشعر العربي ( القاهرة: دار المعارف، ط4، 1960)، ص395

(14)       المعري، أبو العلاء: ديوان سقط الزند، شرح ن.رضا (بيروت: دار مكتبة الحياة، 1987)،ص56. وفي   المعجم الوسيط (سِقْط) بكسر السين. وهو الشَّرارة تتطايرُ من قَدْح الزَّندَيْنِ.

(17)   عبد الرحمن ، عائشة : جديد في رسالة الغفران ( بيروت، الكتاب العربي للنشر ،ط1/1972) ، ص23.

(18)    أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري: لزوم ما لا يلزم ، شرح نديم عدي ( دمشق : دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر،   ط2، 1988 )  ،3/ 1587. خرط قتاد : مثل يضرب للأمر الصعب . وعليان اسم شخص.

(19)   المعري ، لزوم 1/162.

(20)  المعري، لزوم 3/1424.

(21)  هو أبو نصير بن عمران -  داعي دعاة الإسماعيلية بمصر. وفي هذه الرسائل مخاصمات فقهية وفلسفية.

 

(22)       القاضي، محمد عبد الحكيم، إِتحاف الفضلاء برسائل أبي العلاء (القاهرة: دار الحديث، ط1، 1989)      ص382. والبازل: البعير في تاسع عمره، والرُّبَع: الفصيل، وهو ولد الناقة بعد فطامه.

(23)        المعري لزوم 3/1581. إيقاد النار في الليل من عاداتهم لهداية الضيوف، وهو لم يجد ضوء الدنيا بل وجد سنِانها في ضبنه، أي جبنه والضبِنُ (بالكسر) ما بين الكشح والإبط.

 

(24)         المعري، لزوم 2/1097.

(25)         المعري، لزوم 2/885. ذَوْتك: أبعدتك.ثاو وحابس: مقيم، أي لا تزال حياً.

(26)       عبد الرحمن ،عائشهَ: جديد في رسالة الغفران (بيروت: دار الكتاب العربي ،ط1، 1972)، ص25. وانظر رسائل أبي العلاء ،ص414.

 

 

 

 

 

(28)  حسين، طه: تجديد ذكرى أبي العلاء( القاهرة: دار المعارف، طـ 1963،6)،  ص123وما بعدها.

 

 

 

 

 

 

 

 

(30)    الحموي، ياقوت: معجم الأدباء1/199. ومعنى( أواهل):جمع آهل، أي مسكونة ويشك بعض النقاد في هذه الحادثة، ويرون أن العلاقة كانت مرضية بين الشريف المرتضى وأخيه الشاعر الرضي ويستدلون على ذلك بقصيدة رثاء المعري بعد عودته إلى المعرة يرثي بها أبا أحمد الطاهر الموسوي والد الشريفين.

(32)    المعري:رسالة الغفران، تحقيق عائشةعبد الرحمن(القاهرة:دار المعارف،ط5 ، 1969)، ص 231.

(33)     المرجع السابق،ص 285. وانظر رسالته إلى خاله عليّ بن سبيكة (رسائل أبي العلاء المعري)  تحقيق عبد الكريم خليفة (عمان، منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة، 1976م) 1/175.

(34)   حسين،طه:مع أبي العلاء في سجنه(القاهرة:دار المعارف،1963)،ص33.

(35)          طه حسين، مع أَبى العلاء في سجنه،ص71.

(36)         المعري أبو العلاء: الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ ، نشر محمود حسن زناتي(القاهرة:مطبعة حجازي/أمين هندية،1938) ص279.

(37)         خليفة، عبد الكريم: رسائل أبي العلاء المعري ( عمان: منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة، 1976) صفحة(ح) من المقدمة.

(40)   الخولي، أمين:رأي في أبي العلاء ( القاهرة:طبعة جماعة الكتاب، القاهرة 1963) ص 136.

 

(41)         العلايلي،عبدالله: المعري ذلك المجهول: ( بيروت:الأهلية للنشر والتوزيع،1981)                      ص 97، 151، 168.

(43)    طه حسين، أبو العلاء في سجنه،ص101.

(44)    كأني بطه حسين يحدثنا عن نفسه، فما أكثر ما بين الكفيفيْن من تشابه، وقارن بـ (الأيام) ص27 وما بعدها في حادثة تحريم أبي العلاء الدبس على نفسه طوال الحياة، وتستره عند تناول طعامه حتى على خادمه، وأنه كان يأكل في نفق تحت الأرض.. وأن طه حسين حذا حذوه إلى أن خلصته قرينته الفرنسية (سوزان)  من تلك العادة .

(47)     عبد الحميد، عرفان :الفلسفة الإسلامية: دراسة ونقد ( بغداد دار التربية د.ت)،15-25.

(48)   قنيبي، حامد: القياس اللغوي وتنمية الألفاظ (الرباط:مجلة اللسان العربي، مركز تنسيق التعريب،             مجلد 38 ، 1993).

(49)      مقدمة ابن خلدون، ص 779-780 (طبعة دار الكتاب اللبناني).

(50)     الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ للمعري.ص 68 .

(56)   المعري، لزوم 1/131.

(58)   المعري، لزوم 2/720 ، إذا أردت أن تعرف أمراً لم تشاهده فعليك أن تقيسه بالأمر الذي شهدته فرجل الإنسان تفهم شيئاً عن الموت لما تعرفه من الخَدَر.

(61)         المعري، لزوم 1/61.الإمام الناطق: هو المهدي الذي يحاربُ أهل الجور عند بعضهم، والكتيبة الخرساء: لايسمع لها صوت من وقار جنودها. وهو هنا ينفي ظهور المهدي ويرى أن العقل هو الإمام.

(64)    شوقي ضيف، الفن ومذاهبه، ص394.

(67)   تجديد ذكرى أَبي العلاء، ص210 و211. وهناك من تابع د.طه حسين في رأيه، ينظر (أبو العلاء في اللزوميات) يوحنا قمير،ص10. و(أبو العلاء المعري ناقداً) وليد محمود خالص، ص129 و(في الشعر العباسي: نحو منهج جديد) يوسف خليف،ص164.

(69)    قمير،يوحنا: أبو العلاء المعري في لزومياته(بيروت:دار المشرق،1968)،ص10.

(71)    فضل،صلاح: تأثير الثقافة الاسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي (القاهرة:مؤسسة شباب الجامعة1985)، ص94-97.

(73)   سورن كيركجور(1813-1875) فيلسوف ولاهوتي دانماركي متشائم الصبغة. ألّف "كتاب الغصة" علل فيه الوجود.

(74)   حسين ، طه: صوت أبي العلاء( القاهرة:دار المعارف، اقرأ 23/1944)، ص6-7.

(77)    العلايلي، عبد الله : المعري ذلك المجهول ( بيروت:الأهلية للنشر ، 1981)،  ص 103.

(78)  الاغتراب Alienation حالة نفسية اجتماعية تسيطر على الفرد ، فتجعله غريباً عن واقعة الاجتماعي، وينطوي مصطلح الاغتراب على مفاهيم متعددة، تعدد الفلاسفة الذين استخدموه.

(79)  المحاسني، زكي:أبو العلاء ناقد المجتمع (القاهرة:دار الفكر العربي ،1947)،ص56.

(80)  ضيف، الفن ومذاهبه، ص 390.

(81)   اصطلحتُ مع طلابي وأنا أدرس لهم ( المعري) أن ننحت من ( شاعر+فلسفي) كلمة( شَ عْ فَ لِ ي)= شَعْفَلي. أو ( شَ عْ فَ سِ ي ) = شَعْفَسِي، زنة:عَبْشَمي+ تَيْلمي انظر مبحث ( النحت والاختصار) في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني للباحث حامد صادق قنيبي ، عدد 43 سنة 1994   ص 199-256.

(82)   العصيان المدني( نقلاً عن الموسوعة العربية العالمية، إعداد هيئة متخصصة، الرياض، 1416هـ، مادة ( عصيان،20/289): رفض علني عن عمد.. وهو( عند جماعة) مسألة اعتقاد فردي ديني أو أخلاقي، وهم يرفضون إطاعة القوانين التي يعتقدون أنها تنهك مبادئهم الشخصية.. ومعظم أشكال العصيان المدني لا تتم باستخدام العنف، وهي تختلف عن الشغب والإخلال بالأمن. ومن أمثلة العصيان المدني في التاريخ المعاصر حركة المهاتما غاندي زعيم الهند، حيث قاد شعبه سلمَّياً بالإضرابات ومسيرات الاحتجاج والمعارضة لتحرير أنفسهم من الحكم البريطاني حتى نالوا الاستقلال عام 1947م.  

(83)   شلق، علي: أبو العلاء والضبابية المشرقة( بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،1981)،        ص28.

(85)        والبيت بتمامه في اللزوميات: 1/60: ( افيقوا. افيقوا ياغواة فإنّما  ديانتكم مكرٌّ من القُدمـــاءِ)

(87)        يقول3/ 1242 :  (قد كثُرَ الشّر على ظهرها    وأُتْهِمَ المُرسِلُ والمُرسَلُ )

                                   ( الأرضُ للطوفانِ مُشتاقةٌ                لعلّها مــن درنٍ تُغْسَلُ )

(88)  الومضة الارتجاعية (Flash back) : قطع التسلسل التاريخي في أثر أدبي أو مسرحي بإيراد أحداث أو مشاهد وقعت في زمن سابق، ويُسمى أيضاً الارتداد. ( الموسوعة العربية العالمية).

(95)       المعري، لزوم 1/273.والطية بالتثقيل والتخفيف:الحاجة والوطر.

(103)  المعري، لزوم 2/1112.أعفى الجماد:أي من الأكل والشرب.المجزع:الجزع وعدم  الصبر.المِلْطس(بكسر الميم يتبعها لام ساكنة وطاء  مفتوحة) آلة نحت الحجارة. الأجدل: الصقر. زُرق: الباشق..

(105)    انظر: كتاب الأيام، طه حسين، ص94.

(109)        المعري، لزوم،1/39.

(110)        المعري، لزوم،1/123.

(113)    المعري، لزوم 1/58.

(118)    المعري، لزوم، 1/184.

(121)    أدهم ، علي : بين الفلسفة والأدب ( القاهرة: دار المعارف، 1978) ، ص 12، 13

(132)    طه حسين، الأيام، ص 451-452.

(133)    المعري، لزوم 1/534 .

(143)    المعري، لزوم،2/629.

(158)    المعري ، لزوم ،1/283.الظلم (هنا) هو الزينة بالحليّ المموهة بالذهب.

(165)  المعري، لزوم،2/989.شباط:شهر شباط.

(167)        المعري، لزوم1/504.

(172)        المعري، لزوم3/1595.

(176)        المعري، لزوم 1/376. أبيض أمات: أي حليبها. اللبن الصريح: النقي الخالص.

(180)    المعري، لزوم ، 2/1061 دَفْر (بفتح الدال وسكون الفاء) : الدنيا .

(184)    الدروبي ، سامي : علم النفس والأدب (القاهرة ، دار المعارف ، ط2 ،1981) ص 229، 230.

(186)    سبقت الاشارة الى ذلك في هذا البحث.

(189)    جويجاتي، رفيق : مواطن الابداع في لزوميات أبي العلاء (مجلة الفكر العربي، مجلد 4،                  عدد  25 شباط 1982) ص 374.

فضلاً وليس أمراً
اترك تعليقاً هنا

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

المشاركات الشائعة

قلوب المؤمنين

قلوب المؤمنين
اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

Translate

معلومة قانونية وثقافية, قانون , رد ,دعوى , دفع, استشكال, اتفاق, عقد شراكة في محل تجاري, عقد تأسيس شركة تجارية, عق تشغيل حارس في عمارة, دعوى قسمة التركة, الوصية والوقف, الهبة, فسخ عقد الزواج, دعوى إلغاء القرار الاداري.

المتابعون

المشاركات الشائعة

جميع الحقوق محفوظة

معلومة قانونية وثقافية

2016